ماذا لو لم تكن العمارة تدور فقط حول تشكيل الفراغ للحاضر، بل حول الاستعداد لمستقبل لم يتشكّل بعد؟ هذا هو جوهر مفهوم العمارة التوقّعية — فلسفة تصميم لا تلبّي الاحتياجات الآنية فقط، بل تضع إطارًا مفتوحًا لاحتمالات قادمة، مجهولة أو متخيّلة أو حتى غير محسومة.
من الأجنحة المؤقتة إلى البنى التحتية التي تنتظر نمو المدن، شكّلت التوقّعية جزءًا خفيًا من العمارة عبر العقود. لكن في زمن التغيرات المتسارعة — مناخية، تقنية، اجتماعية — لم يعد يكفي أن نصمم للحظة الراهنة. على المعماري أن يتحوّل إلى نوع من “المتنبئ”، يصمم مباني قادرة على التطور والتكيّف واحتواء ما لم يُعرّف بعد.
ما هي العمارة التوقّعية؟
تشير العمارة التوقّعية إلى نهج تصميمي يهدف إلى خلق بيئات تستوعب سيناريوهات مستقبلية — سواء في الاستخدام أو الجمهور أو التقنية أو حتى التوجّهات الاجتماعية والسياسية — لم تحدث بعد. لا تتعلق المسألة بالتنبؤ، بل بإتاحة الفرصة للمستقبل أن يجد مكانه ضمن تكوين الفراغ.
قد يكون ذلك من خلال ساحة عامة مصممة لتحتضن فعاليات غير متوقعة، أو مبنى سكني يمكن أن يتمدد رأسيًا بمرور الزمن، أو مبنى يترك عناصره غير مكتملة كإشارة للانفتاح وليس للنقص.
إنها عمارة تتطلب التواضع؛ إذ تعترف بأن أي تصميم مهما بلغت دقّته لا يمكنه التنبؤ الكامل بما سيأتي.
استراتيجيات التصميم التوقّعي: ثلاث مداخل رئيسية
1. المنطق الفراغي المرن
أكثر طرق تطبيق التوقّعية مباشرة تكون عبر المرونة المكانية. أنظمة وحدات، مخططات مفتوحة، جدران قابلة للتعديل — كلها تسمح بإعادة تشكيل المساحة مع تغيّر الحاجة.
مثال بارز هو مشروع الإسكان الاجتماعي من تصميم Elemental في تشيلي، حيث يبني المكتب نصف المنزل فقط، ويترك النصف الآخر ليقوم السكان بإكماله لاحقًا بما يناسبهم. هذا التصميم يتوقّع النمو، لكنه لا يفرض شكله.
2. البرمجة الزمنية
التوقّعية لا تخص المكان فقط، بل الزمن أيضًا. فمساحة ما قد تكون مكتبة صباحًا ومركزًا مجتمعيًا مساءً، أو منشأة فنية مؤقتة تتحوّل لاحقًا إلى بنية دائمة.
جناح Serpentine في لندن مثال على هذا التوجه. عمره الافتراضي موسم واحد، لكنه يُعاد توظيفه في بلدان أخرى، وغالبًا ما يُصمم ليُفكّك ويُعاد تركيبه — مفهوم التكرار الزمني مدمج في أصله.
3. الجاهزية الهيكلية والمادية
بعض المشاريع تعتمد على قدرات خفية في المواد أو الهياكل تسمح بتعديلات مستقبلية. أساسات مصممة لتحمل طوابق إضافية، أو أنظمة كهربائية مدمجة لاحتضان تقنيات لم تُستخدم بعد.
أحد الأمثلة هو مبنى CCTV في بكين من تصميم OMA، حيث تم تعزيز أجزاء من البنية التحتية لاستيعاب أنظمة إعلامية لم تكن موجودة أثناء التشييد. هذا ليس هدرًا، بل جاهزية مستقبلية.
التوقّع مقابل التخمين
يُفرّق كثيرون بين العمارة التوقّعية والعمارة التخيلية. رغم أنهما ينظران للمستقبل، إلا أن الأولى متجذرة في الواقع، تفتح المجال لما قد يكون دون أن تغرق في الخيال.
بينما قد تتخيل العمارة التخيلية مستوطنات على المريخ، تسأل العمارة التوقّعية: ماذا يحدث عندما يتضاعف عدد السكان في هذا الحي؟ كيف يمكن أن يتحوّل هذا المبنى من مدرسة إلى سكن بعد 20 سنة؟
العمارة التوقّعية لا تكتفي بطرح السؤال “ماذا لو؟”، بل تبني هيكله المادي داخل الفراغ.
التوقّعية على مستوى التخطيط الحضري
لا تقتصر التوقّعية على المباني، بل تمتد إلى التخطيط العمراني بأكمله. من المخططات التي تسمح بالتدرج في الإنشاء، إلى ممرات بنية تحتية تمهيدية تسبق التوسع الحضري.
مثال واضح هو مدينة مصدر في الإمارات، التي رُسمت لتكون مدينة صفرية الانبعاثات. رغم تعثر بعض مراحل التنفيذ، إلا أن تخطيطها وهيكلها العمراني يسمحان باستيعاب تقنيات جديدة وأهداف متغيرة.
مثال آخر هو الهاي لاين في نيويورك — الذي تحوّل من خط قطار مهجور إلى مساحة عامة نابضة بالحياة، فقط لأن التصميم توقّع إعادة الاستخدام بطريقة ذكية.
البُعد النفسي للفراغ المتوقّع
لا تتعلق التوقّعية بالبناء فقط، بل بالأثر النفسي. عندما يشعر المستخدم أن المكان “يفتح الباب” للمستقبل، يعزز ذلك إحساسه بالانتماء والأمل.
هذا مهم جدًا في المشاريع العامة أو الانتقالية، كالإسكان المؤقت أو الأحياء الناشئة. الفراغ الذي لا يفرض نفسه، بل يتكيّف، يمنح الناس إحساسًا بأنهم جزء من قصة لم تُكتب بعد.
المخاطر والتحديات
بطبيعة الحال، تصميم ما لم يحدث بعد فيه مخاطرة. قد تبدو المساحات غير مكتملة أو غير واضحة في وظيفتها. وقد ترفض بعض الجهات التمويلية المشاريع التي لا تضمن استخدامًا ثابتًا. كما أن المرونة المفرطة قد تفضي أحيانًا إلى الفراغ غير المعرّف.
لكن العمارة التوقّعية ليست غموضًا عشوائيًا، بل بنية مقصودة للسؤال والانفتاح.
عمارة في زمن اللايقين
في عصر يُعاد فيه تعريف كل شيء — من المناخ إلى الذكاء الاصطناعي — يجب أن تصبح العمارة أكثر تكيفًا. المباني لم تعد كيانات جامدة، بل كائنات حية تتفاعل مع الزمن والمجتمع والتقنية.
إنها لحظة تفرض أن نُصمم ليس فقط لما نعرفه، بل لما لم نعرفه بعد.
الخاتمة: البناء لما لم يُبنَ بعد
لطالما كانت العمارة فنًا بطيئًا. لكنها اليوم مطالبة بأن تكون فنًا استراتيجيًا أيضًا — فنًا يبني للمستقبل، لا للماضي. العمارة التوقّعية ليست أسلوبًا أو اتجاهًا فقط، بل موقفًا فلسفيًا: فضاء يتنفس الزمن، ويعيش اللايقين، ويتهيأ بهدوء لما قد يأتي.