المقدمة: عندما تصبح الرائحة لغة تصميم
لطالما ارتبطت العمارة بالفراغ، والضوء، والشكل، والكتلة. ولكن ماذا يحدث عندما نوسّع مفرداتها لتشمل ما هو غير مرئي وغير ملموس — الرائحة؟ إن عمارة الرائحة هي مجال متعدد التخصصات بدأ يلفت الانتباه، حيث يدرك قوة الشم في تشكيل التجربة المكانية واستدعاء الذاكرة العاطفية. من عبير خشب الأرز في غرف التأمل، إلى رائحة المطهرات في أروقة المستشفيات، تظل الرائحة عندما تتلاشى الرؤية والصوت.
يُنظر إلى الشم عادة على أنه إحساس خلفي، لكنه في الحقيقة الأكثر ارتباطًا بالعاطفة من بين الحواس كلها. يتصل النظام الشمي مباشرة بالجهاز الحوفي في الدماغ — مركز العاطفة والذاكرة — مما يجعل الذاكرة الشمية أداة قوية في يد المصمم المعماري. يستعرض هذا المقال كيف بدأ المعماريون والمصممون والباحثون في إدماج الرائحة في العمارة لإثراء التجربة الحسية وخلق أجواء فريدة وحتى سرد القصص.
بُعد منسي في العمارة
مع هيمنة الحداثة على لغة التصميم البصرية، تراجعت الحواس الأخرى إلى الظل، خاصة الشم. ظهرت المباني كأشياء تُشاهد لا تُشم، فغاب عنها البُعد الحسي. إلا أن هذا لم يكن دائمًا هو الحال.
في العمارة التقليدية، لعبت الرائحة دورًا أساسيًا. فكر في البخور في الكاتدرائيات، أو العطور في أفنية القصور الإسلامية، أو رائحة الطين والكلس في البيوت الطينية. كانت تلك الروائح جزءًا من هوية المكان. ومن هنا، فإن عمارة الرائحة ليست اختراعًا جديدًا، بل إحياء لما هو أصيل وحميمي.
الرائحة كجزء من الأجواء: دور الخامات
تُنتج العمارة أجواءً ليس فقط من خلال الشكل أو الضوء، بل عبر الخامات، التي تحمل روائحها الخاصة. عبير الخشب، رطوبة الحجر، أو لُدونة المعدن — كلها تُسهم في صياغة الشخصية الحسية للمكان. ومن يدرك عمارة الرائحة، يختار المواد بناءً على رائحتها بقدر ما يراعي صلابتها أو مظهرها.
بعض الأمثلة على مواد تُختار لرائحتها:
- خشب الأرز الأحمر الغربي، الذي يُستخدم في المساحات التأملية بسبب رائحته المهدئة.
- الكلس الطبيعي، برائحته الترابية التي تمنح شعورًا بالارتباط بالأرض.
- الخشب المحروق (شوجي بان)، الذي يصدر رائحة دخانية باقية تدوم سنوات.
في هذه الحالات، لا تُضاف الرائحة، بل تكون متأصلة في جوهر المادة.
التصميم برائحة مقصودة
في بعض المشاريع، يتعاون المعماريون مع صُنّاع العطور أو مختصي الروائح لإدخال روائح محددة بدقة. بعض الفنادق والمعارض والمطارات باتت تعتمد الهوية الشمية — أي استخدام روائح مميزة كعلامة تجارية حسية. إلا أن الرائحة لا يجب أن تكون وسيلة ترويج فقط، بل أداة سرد معمارية.
من أبرز الأمثلة على تطبيق عمارة الرائحة:
- أعمال أولافور إلياسون، التي تدمج الضباب والرطوبة والروائح لتوليد استجابة حسية.
- منتجع فالز الحراري من تصميم بيتر زومثور، حيث تلعب رائحة الماء والمعادن والحجر دورًا أساسيًا في التجربة.
- مشروع متحف العواطف الافتراضي، الذي يُقسّم الغرف حسب الروائح المولدة لمشاعر معينة مثل الفرح أو الحنين أو الطمأنينة.
الهدف هو صناعة ذاكرة حسية متكاملة، حيث تتشابك الرائحة مع الفراغ والزمن.

الرائحة والذاكرة: خريطة عاطفية غير مرئية
الروائح تترك بصمة عميقة في الذاكرة أكثر من الصور أو الأصوات. رائحة الياسمين قد تعيد شخصًا إلى طفولته، ورائحة القرنفل قد تستحضر لحظة منزلية دافئة. من هنا، تصبح عمارة الرائحة وسيلة لتفعيل الذاكرة، وتصميم أماكن تبقى في الوجدان لا فقط في العين.
في الرعاية الصحية، تُستخدم هذه الفكرة بذكاء. في دور رعاية كبار السن مثلًا، توظَّف الروائح كأدلة حسية تساعد على التوجيه والشعور بالأمان. وفي المساجد والمعابد، تُستخدم روائح خاصة لتحفيز الإحساس بالسكينة والوقار.
إن عمارة الرائحة هنا لا تهدف إلى إثارة الانفعالات السطحية، بل إلى بناء علاقة وجدانية بين الإنسان والمكان.
التحديات: التصميم بما لا يُرى
رغم جمال الفكرة، إلا أن العمارة بالرائحة تطرح تحديات عديدة:
- زوال الرائحة: فالروائح تتأثر بالتهوية والحرارة والرطوبة.
- الذوق الفردي: رائحة مريحة لشخص قد تكون مزعجة لآخر.
- التكرار والاعتياد: الروائح القوية قد تُنهك الحواس أو تسبب الحساسية.
- الصيانة: الحفاظ على رائحة ثابتة يتطلب نظامًا دوريًا.
لذلك، يُنصح باستخدام الرائحة كطبقة خفيفة لا كرائحة مهيمنة، وضمن سياق شمولي يحترم طبيعة المشروع.
نحو عمارة متعددة الحواس
في عصر تُهيمن فيه التجارب الغامرة، من الواقع المعزز إلى المتاحف التفاعلية، يُطلب من العمارة أن تفعل أكثر من مجرد احتواء النشاطات. إنها مطالبة بخلق تجربة حسية شاملة. وهنا تأتي عمارة الرائحة كجزء من هذه الثورة، إذ تشجع على تصميم أماكن تلمس الوجدان لا فقط البصر.
اليوم، بدأت بعض كليات العمارة بإدخال مفاهيم جديدة في التعليم، مثل رسم الخرائط الشمية أو التعاون مع مختصي العطور. النتيجة؟ معماريو المستقبل يفكرون بأعينهم وأنوفهم معًا.
الخاتمة: ذاكرة خفية تدوم
في استعادة عمارة الرائحة، نعيد اكتشاف العمارة كفن عاطفي. فالرائحة تُخزن في الذاكرة كما لا تفعل أي حاسة أخرى. وعندما تشم مكانًا، فأنت لا تزوره فقط، بل تعيشه على مستوى أعمق.
ليست العمارة بالرائحة ترفًا، بل وسيلة لبناء أماكن تترك أثرًا حقيقيًا، حيث يصبح المكان ملموسًا في العقل حتى بعد مغادرته.
تنبيه Pingback: العمارة بعد الإشغال: عندما يُعيد المستخدمون كتابة الفضاء