تخطى إلى المحتوى
Home » نظرية الأركي–جينيتكس

نظرية الأركي–جينيتكس

في لحظة تأمل وسط الزحام المعماري للحضارات، ووسط الملامح المتنوعة للبشر، وُلدت نظرية آركي-جينتيكس، كإطار فكري جديد وبالتالي أن العمارة ليست مجرد ممارسة ثقافية أو مجرد ممارسة ثقافية أو، بل تمتد عضوي لجيناتنا البشرية.

وهذا يعني القول باختصار: “نحن نبني ما نحن عليه” — وأن الملامح جسديًا، بالضغط الشديد، بالتالي، التي تطوّر فيها الإنسان، تتسرب بطريقة لا واعية إلى اختياراته التقنية وأنماطه الجمالية.

طيلة، النقوش، وحتى نوع القماش وطريقة لبسه، جميعها ليست مجرد “ذوقًا” بل ربما تذكر جينية مشفّرة.

1. تعريف النظرية ومجالها: الأركي–جينيتكسWe Build What We Are

نظرية الأركي–جينيتكس تقترح منهجًا جديدًا لفهم العمارة والجماليات بوصفهما امتدادًا للشفرة الوراثية الكامنة في الإنسان. يجتمع في هذا المصطلح المركب بين كلمتي Archi (عمارة) وGenetics (علم الوراثة) ليعبر عن فكرة أن ما يبنيه البشر من بيئات وهياكل هو انعكاس مباشر لما هم عليه وراثيًا وثقافيًا. وبعبارة أخرى، نحن نبني ما نحن عليه؛ فخصائصنا الجينية لا تؤثر في ملامحنا الجسدية فحسب، بل تمتد لتشكّل أذواقنا الفنية وهياكل عمارتنا المفضلة. هذه النظرية تضع إطارًا علميًا وتأمليًا لفهم العلاقة التبادلية بين الإنسان (بطابعه البيولوجي الموروث) وبين المنتج الجمالي الذي يبدعه عبر التاريخ.

يتركز مجال الأركي–جينيتكس في تقاطع تخصصات متعددة: علم الوراثة البشري، علم النفس التطوري، علم الجمال، والعمارة التقليدية والشعبية. تسعى النظرية إلى تفسير التشابهات والإختلافات الجمالية بين الحضارات على أسس جينية وبيئية، حيث يُنظر إلى العمارة بوصفها لغة مشفرة تحمل بصمات الهوية الوراثية للجماعات البشرية. كما تفترض أن هناك لاوعيًا جماليًا وراثيًا داخل الإنسان، يدفعه إلى تشكيل بيئته بطريقة معينة تحقق له الراحة النفسية والتوافق مع مكنوناته العميقة. وبهذا، تُعتبر مباني المدن، وأنماط الزخرفة، وحتى الخطوط والألوان المفضلة، جميعها إشارات phenotype جمالية تعكس genotype ثقافي–وراثي متراكم.

إن الأركي–جينيتكس لا تدعي حتمية جينية صارمة تحدد الذوق البشري، بل تؤكد على التفاعل المستمر بين الجينات والثقافة في صياغة الجماليات. فالجينات تهيئ المنصة البيولوجية للإدراك والشعور بالجمال، بينما تقوم الثقافة بصقل تلك التوجهات الفطرية عبر التربية والتقاليد. وبهذا المنظور، يمكن لهذه النظرية أن تفسر مثلاً: لماذا تتشابه تصاميم بيوت أطفال من ثقافات شتى عند رسمهم منزلًا من خيالهم بشكل وجه مألوف (باب كفم ونوافذ كعينين)، إذ ربما تكمن في حمضنا النووي بصمة تصميمية أولية تدفعنا لرؤية البناء كوجه بشري مضياف. مثل هذه الأمثلة تشير إلى أن الذوق ليس مجرد نتاج بيئة آنية، بل هو أشبه ببذرة ضاربة في عمق التاريخ الحيوي للإنسان.

باختصار، تسعى نظرية الأركي–جينيتكس إلى بيان أن الجمال المعماري له شفرة وراثية في داخلنا. إنها تدعو للنظر إلى المباني والطرز الفنية كما ننظر إلى السمات الجسدية: كلاهما إرث من عملية تطور طويلة، تكيّفت فيها الكائنات البشرية مع ظروفها، ثم عبرت عن هذا التكيُّف في صورة هياكل مادية ورموز بصرية. بهذا الفهم، تتحول العمارة إلى سجل صامت للجينات والثقافات التي أنشأتها، ويمكننا من خلالها قراءة قصة الإنسان عبر العصور، وكيف بنينا ما نحن عليه حقًا.

2. نشأة النظرية: من ملامح الوجه إلى العمارة

انبثقت فكرة الأركي–جينيتكس من ملاحظة تشابهات عميقة بين ملامح الوجه البشري وملامح العمارة التقليدية في مختلف الشعوب. إذ يبدو أن العين الخبيرة تستطيع أن تجد صلة وصل بين سمات الناس الجسمانية وأنماط المباني التي يشيدونها. من هنا تساءل منظّرو هذه النظرية: هل يمكن أن تكون هناك غرائز جمالية موروثة تربط بين الاثنين؟ وهل يمكن أن تكون العمارة امتدادًا مكبرًا لملامحنا وهوياتنا الوراثية؟ هذه التساؤلات وضعت اللبنة الأولى لنشأة النظرية بوصفها محاولة لقراءة الفن المعماري كمرآة للحمض النووي الثقافي.

إن ملامح الوجه هي أول ما يميز الفرد ويعبّر عن خلفيته الوراثية؛ فشكل العينين ولون البشرة وعرض الأنف كلها سمات تحمل في طياتها تاريخًا جينيًا مرتبطًا ببيئة الأسلاف. بالمثل، نجد أن طرز العمارة التقليدية – من ارتفاع الأسقف إلى شكل النوافذ ونوع المواد – تحمل بصمات البيئة الطبيعية والإنسانية التي نشأت فيها. أدرك مؤسسو نظرية الأركي–جينيتكس أن هذا التشابه ليس صدفة، بل هو نتيجة تواشج عميق بين الجينات والذوق. فالجينات التي تكيفت لتحسين بقاء الإنسان في مناخ معين قد تكون هي نفسها التي وجّهت يده لبناء مأوى يناسب ذلك المناخ ويلائم حواسه ومشاعره.

2.1 الذوق الوراثي واللاوعي الجمالي

تفترض النظرية وجود لاوعي جمالي لدى البشر، يعمل على مستوى دفين يشبه عمل الغرائز. هذا اللاوعي تشكّل عبر آلاف السنين من التطور، بحيث بات يميل إلى تفضيل أنماط بصرية معينة حققت للبشر الأوائل الراحة والأمان. يمكن وصف هذا بأنه ذوق وراثي كامن، ينتقل عبر الأجيال مثلما تنتقل بعض السلوكيات الغريزية. على سبيل المثال، يعشق كثير من الناس حول العالم التناسق المتماثل في الوجوه والأشكال، ونجد هذا التناسق حاضرًا أيضًا في واجهات المباني الكلاسيكية التي تضع بابًا في الوسط تحفّه نافذتان متساويتان على الجانبين – مشهد أشبه بوجه له عينان وباب كفم. قد يكون انجذابنا لهذه الهيئة نابعًا من شعور فطري بالألفة، لأنها تذكّرنا بصورة الوجه البشري التي هي أول ما تطبعه ذاكرتنا منذ الطفولة.

لقد أكد علماء النفس التطوري أن كثيرًا من تفضيلاتنا التصميمية الراهنة يمكن إرجاعها لجذور موغلة في تاريخنا السحيق. نحن نتفاعل إيجابًا دون وعي مع أنماط معيّنة لأنها كانت مرتبطة ببقائنا ورفاهنا في بيئات الأسلاف. فعلى سبيل المثال، يشعر معظم الناس بالارتياح في الفراغات المفتوحة التي تسمح برؤية الأفق مع وجود مأوى خلفي، كأن يجلس المرء تحت شجرة تطل على سهل فسيح. هذا التفضيل المزدوج لـالإطلالة (Prospect) والملاذ (Refuge) متجذر فينا؛ فقد كان أسلافنا الصيادون–الجامعون أكثر أمانًا عندما يتوفر لهم منظر واسع لرصد الأخطار مع وجود ساتر يحمي ظهورهم. اليوم نجدنا تلقائيًا ننجذب للمقاهي ذات الجلسات الركنية المطلة، أو للبيوت ذات الشرفات المطلة على مناظر مفتوحة، دون أن ندرك أن أدمغتنا تستحضر شعور الراحة ذاته الذي أحسّه الإنسان البدائي على مشارف السافانا.

هذا اللاوعي الجمالي الموروث يفسر أيضًا انتشار أنماط معينة في الفنون حول العالم، مثل الأنماط الزخرفية المتكررة أو النسب الذهبية، إذ ربما تكون العين البشرية قد تكيّفت عبر الزمن على إيجاد الجمال في النمط الذي تدل تكراريته على الاستقرار. إن ذائقتنا، وفق منظور الأركي–جينيتكس، ليست صفحة بيضاء تمامًا يكتبها المجتمع كيفما شاء، بل هي صفحة منقوشة بحروف باهتة من الماضي السحيق، يخطُّ فوقها المجتمع ثقافته وألوانه الخاصة. وهكذا تندمج الطبيعة والتنشئة في صياغة تفضيلاتنا: فالوراثة تهمس لنا بـ”ما يعجبنا”، والثقافة تصرخ لنا بـ”ما ينبغي أن يعجبنا”، وفي النهاية يتشكل ذوقنا من هذا الحوار الخفي بين الهمس والصراخ.

3. غريزة المأوى: العمارة الأولى كاستجابة جينية

في مرحلة مبكرة جدًا من وجود الإنسان، برزت غريزة المأوى كواحدة من أقوى الدوافع الفطرية. فمثلما تبني الطيور أعشاشها بدافع غريزي، بدأ الإنسان الأول يبحث عن ملجأ يؤويه ويحميه من أخطار الطبيعة. النظرية هنا تقول إن العمارة الأولى لم تكن اختراعًا ثقافيًا محضًا، بل جاءت استجابة جينية مباشرة لحاجات البقاء. لقد حمل الإنسان في تركيبته الوراثية ميولًا للسعي نحو الفراغات الآمنة والمكان الدافئ الجاف، تلك الميول التي وجهت سلوكه للبناء والتأقلم مع البيئات المختلفة.

يمكن تتبع تجليات غريزة المأوى عبر الأمثلة العديدة في أثرنا الباقي من عصور ما قبل التاريخ. فالكهوف – وهي أقدم الملاجئ التي سكنها البشر – جاءت مطابقة تمامًا لمتطلبات غريزية: سقف صلب يحمي من المطر والمفترسات، مدخل واحد يسهل الدفاع عنه، وموقع مرتفع نسبيًا يطل على المنطقة المحيطة للتنبّه المبكر. هذه الخصائص نجد صداها حتى في العمارة اللاحقة؛ فالمساكن التقليدية في كثير من الحضارات وضعت فتحات محدودة وصغيرة للسيطرة على الدخول وتوفير الشعور بالأمن، وشيّدت فوق مرتفعات أو منحدرات لضمان ميزة الإطلالة والمراقبة.

من منظور علم النفس التطوري، البحث عن المأوى كان مشكلة بقاء جوهرية واجهت أسلافنا. الذين نجحوا في حلها عبر بناء أكواخ أو استغلال المغارات تمكنوا من النجاة وتمرير جيناتهم. وهكذا، ترسّخت جينات تفضيل الأماكن المؤمّنة والمريحة جيلاً بعد جيل. لقد ورثنا عنهم تلك النزعة الدفينة إلى تحسين محيطنا المباشر ليصبح بيتًا حانيًا. ولعلنا نلمس هذا في شعور الرضا الغريب الذي يعترينا عند ترتيب ركن من المنزل أو سد ثغرة تسمح بتيار هوائي بارد؛ إنها استجابة غرائزية بأن المكان صار “أكثر ملاءمةً للإيواء”.

بالإضافة إلى ذلك، تكمن خلف غريزة المأوى مفاهيم مثل نظرية الملاذ والمشهد (Prospect-Refuge) المشار إليها آنفًا. هذه النظرية التي طرحها علماء البيئة المعماريون تؤكد أن لدى البشر ميل فطري لأماكن تحقق توازنًا بين الانكشاف والحماية. يظهر هذا جليًا في تصميم المساكن الأولى: فمثلاً كان الإنسان يميل إلى إنشاء مخيمه تحت صخرة بارزة أو شجرة ظليلة (ملجأ)، على حافة سهل مفتوح (مشهد). مع تطور العمارة، حافظت كثير من المباني التقليدية على هذه الخصلة؛ فنجد البيوت الساحلية مرتفعة تطل على البحر، والقصور القديمة محاطة بساحات (حوش أو فناء داخلي يوفر سماء مفتوحة مع جدران تحمي حولها). كأن المعماري القديم دون أن يشعر يحقق وصايا جيناته التي تناديه: اجعل بيتك حصنًا ينظر ولا يُنظر إليه.

إن النظر للأكواخ الطينية الأولى وأكواخ القش والخيام سيكشف لنا أنها بنيت وفق كود غريزي عالمي: سقف يغطي الرأس، جدران تحد الفضاء، فتحة وحيدة للعبور. ورغم بدائية هذه المنشآت، إلا أنها كانت حلولًا ناجعة طبقتها البشرية قاطبة لأنها مطبوعة في جيناتها. واستمرار وجود تلك الأشكال الأساسية في فن العمارة حتى اليوم (كما في تصميم البيوت الريفية البسيطة حول العالم) هو دليل إضافي على قوة هذه الغريزة. فمهما تعقدت الأبنية الحديثة وتفننت، يبقى هناك شعور أصيل ينجذب إلى الكوخ البسيط بوصفه رمز الأمان الأول. وغريزة المأوى هذه هي التي أطلقت شرارة الإبداع المعماري كله؛ إذ ما إن لبّى الإنسان حاجته الأساسية في الحماية، حتى أضاف لمسته الإبداعية، لتبدأ العمارة رحلتها من كهف إلى كوخ إلى ناطحة سحاب – رحلة تقودها دائمًا حاجتنا الوراثية للشعور بالأمان والانتماء إلى مكان.

4. الطفرات والتشّكل: التكيّف الجيني مع البيئة

في سياق تطور الإنسان، أدت الطفرات الجينية والتشكل عبر الانتخاب الطبيعي إلى تنوع هائل في سمات الشعوب بحسب بيئاتها. هذه التغيرات لم تقتصر على لون الجلد أو شكل الجسم، بل انعكست أيضًا في تكيّفات ثقافية ومنها العمارة. فالبشر الذين عاشت جماعاتهم في الصحارى القاحلة طوروا خصائص جسدية معينة (كالبشرة الداكنة المقاومة للشمس والأجسام النحيلة لتبديد الحرارة)، وبالمثل طوّروا طرزًا معمارية تتلاءم مع الحر الشديد (كالمساكن ذات الجدران السميكة والنوافذ الصغيرة). وفي المناطق الباردة، حيث انتخبت الأجسام المكتنزة للحفاظ على الحرارة، نجد البيوت صغيرة الفتحات ومنخفضة السقف تحفظ الدفء الداخلي، كما لجأ البعض إلى بناء البيوت تحت مستوى الأرض أو نصف غائرة استغلالًا لعزل التربة.

إن تفاعل الجينات مع البيئة (وفق ما يسمى نظرية الوراثة المزدوجة) يوضح أن الثقافة نفسها يمكن أن تكون امتدادًا لعملية الانتخاب الطبيعي. فالجينات التي منحت جماعةً بشرية أفضلية للبقاء في مناخ معين ساهمت أيضًا في تشكيل نمط عيش تلك الجماعة وثقافتها المادية. على سبيل المثال، أظهرت دراسات حديثة أن شكل الأنف البشري ليس عشوائيًا، بل تأثر بدرجة كبيرة بالمناخ المحلي عبر العصور الطويلة. فالأنوف الضيقة الطويلة أكثر شيوعًا في البيئات الباردة والجافة لأنها تقوم بتسخين وترطيب الهواء قبل دخوله إلى الرئتين، بينما الأنوف العريضة القصيرة تسود في البيئات الحارة الرطبة لأنها تسمح بمرور هواء أكبر دون إعاقة. هذه التكيّفات الجينية نشأت لحماية الإنسان صحيًا، لكنها أيضًا غيّرت مظهره الخارجي وأعطت كل مجموعة بشرية هيئة مميزة تتناسب مع موطنها.

وبالتوازي، نجد العمارة التقليدية لكل منطقة قد صُممت بطريقة تخدم الوظيفة ذاتها التي تؤديها تلك التكيفات الجسدية. ففي المناطق الباردة، طوّر الناس بيوتًا بأبواب منخفضة وأسقف واطئة للإبقاء على الهواء الساخن بالداخل، واستخدموا مواد عالية الكثافة الحرارية كالصخور والأخشاب الثقيلة لتخزين حرارة النهار وإطلاقها ليلًا. أما في المناطق الحارة، فنجد البيوت مبنية من مواد خفيفة أو طينية مسامية تسمح ببرودة داخلية، مع فتحات تهوية عليا لتصريف الهواء الساخن – تمامًا كما يساعد الأنف العريض على تبريد هواء الشهيق. هذه الأمثلة تدل على أن البيئة لعبت الدور المزدوج: عدّلت أجسامنا بجيناتنا، وعدّلت أبنيتنا بأفكارنا، وكانت المحصلة النهائية تناغمًا بين الاثنين.

يمكننا أن ننظر إلى العمارة الشعبية حول العالم كدليل مادي على عملية التشكل هذه. فمساكن الإسكيمو (الإيغلو) المقببة من الثلج ظهرت حيث لم يكن هناك خشب للبناء، وحيث البرد قارس حد تجميد الأنفاس؛ فكانت القبّة الثلجية حلاً عبقريًا يحبس الهواء الدافئ بالداخل، وقبتها المستديرة توزع الضغط بالتساوي. في المقابل، ظهرت الأكواخ الخشبية المتراصة في الغابات الشمالية، واعتمدت على خاصية الخشب في العزل والتنفس للتحكم برطوبة الداخل. أما في المناطق المدارية الممطرة كجنوب شرق آسيا، فنجد البيوت القائمة على أعمدة مرتفعة عن الأرض نجاةً من الفيضانات وتهويةً أفضل في الجو الخانق. حتى تفاصيل صغيرة مثل ميلان الأسقف واتجاه النوافذ جاءت استجابة لمتغيرات البيئة: فأسقف اليابان وجنوب الصين مثلًا ذات ميلان حاد وتصميم بارز لتحمي الجدران من أمطار موسمية غزيرة، وأسقف الدول الإسكندنافية مكسوة بالعشب أو القش السميك لعزل حراري إضافي خلال الشتاء الطويل.

4.1 المواد كمرآة للبيئة والجسد

تلعب مواد البناء دورًا محوريًا في نظرية الأركي–جينيتكس، حيث إنها الحلقة الملموسة التي تربط بين البيئة الطبيعية والجسد البشري من جهة، والعمارة من جهة أخرى. فالمواد المحلية المستخدمة في البناء هي في الواقع مرآة للبيئة: فهي مما تجود به طبيعة المكان، وبالتالي تحمل خصائص تلك الطبيعة في خصالها الفيزيائية. لكنها أيضًا مرآة للجسد بمعنى أنها تخاطب حواس الإنسان وتستجيب لاحتياجاته الفيزيولوجية العميقة. على سبيل المثال، حين يستخدم أهل الصحراء الطين واللبِن لبناء منازلهم، فهم لا يختارونها عشوائيًا؛ فهذا التراب نفسه الذي مشوا عليه وتحملت أجسادهم حرارته هو ما سيشكل جدران مسكنهم، فيصنعون منه حوائط سميكة تحميهم من قيظ النهار ببراعة تشبه طريقة جلدهم الداكن في حماية أجسامهم من وهج الشمس. يعمل جدار الطين كمبادل حراري بطئ الإطلاق – يمتص الحرارة طوال النهار ويبطئ انتقالها، ثم يحررها ليلًا عندما تنخفض درجة الحرارة، وبذلك يحافظ على راحة قاطنيه. الأمر أشبه بـ”جسد معماري” يتنفس مع دورة الطبيعة اليومية.

في المناطق الباردة على الجانب الآخر، نجد استخدام الخشب والحجر بكثرة. فالخشب بجانب وفرته في الغابات الشمالية، له خواص عزلية عالية بفضل الهواء المحتبس في أليافه، مما يجعله دثارًا للمساكن كما الفراء صُنع غطاءً لأجسام السكان هناك. بيوت الأكواخ الخشبية في أوروبا وآسيا الشمالية جدرانها من جذوع الأشجار المتشابكة؛ هذا التصميم يقلّد بنية العظام والمفاصل: ترابط قوي يسمح ببعض المرونة لامتصاص الصدمات الحرارية أو حتى الزلازل الخفيفة. كما أن الخشب “يتنفس” مع الرطوبة، فينتفخ وينكمش، وكأنه يواكب تبدلات الجو مثلما تتفاعل بشرة الإنسان مع الرطوبة وجفاف الهواء. الحجر أيضًا استُخدم حيث يتوفر، فنجد بيوت الجبال مبنية من صخور موضوعة بعناية. الحجر مادة باردة صيفًا دافئة شتاءً بفضل سَعته الحرارية الكبيرة، وهو بهذا يحاكي عظام الجسد التي تحفظ الحرارة وتمنح الصلابة. حين يدخل المرء بيتًا جبليًا بجدران حجرية سميكة، يشعر برهبة وصلابة لكن أيضًا باحتواء دافئ، كأنه في حضن الكهف الأول الذي احتمى به الإنسان القديم.

لا يقتصر الأمر على الوظيفة الفيزيائية للمواد، بل يتعداه إلى إحساس جمالي ونفسي. فالأخشاب والطين ومواد الطبيعة الخام تعطي الإنسان شعورًا بالألفة لأنها ممتدة منه وإليه. ليس غريبًا أن كثيرًا من الثقافات نسبت أرواحًا للمواد – كأن يتحدثوا عن “روح الخشب” أو “روح الحجر” – إذ رأوا فيها حياة كامنة تتفاعل مع أجسادهم وأرواحهم. وحتى مع تطور المواد الحديثة كالزجاج والفولاذ، يلاحظ أن نجاح العمارة في تحقيق القبول النفسي يعتمد على مدى ملاءمة تلك المواد لفطرة الإنسان وحواسه. الزجاج الشفاف مثلًا يمنحنا امتدادًا للبصر (وهو أهم حواسنا الموجهة وراثيًا للبحث عن الأخطار أو الفرص)، بينما الخرسانة المعزولة تمامًا قد تعطينا إحساسًا بالبرودة أو الغربة إن لم تُكسَ بلمسات لونية أو خشبية تخاطب بشرتنا وبصرنا الباحث عن دفء الملمس.

يمكن القول إذن إن المواد الإنشائية هي لغة الطبيعة التي يفهمها الجسد البشري فطريًا. فاليدان اللتان تبنيان جدارًا طينيًا إنما تشكلان صلة وصل بين جلد الصانع وطبيعة موطنه، وتولد تحفة معمارية تخاطب الغرائز. وبهذا المعنى، يصبح الجدار أو السقف كائنًا شبه حيّ يتفاعل مع الحرارة والرطوبة والصوت تمامًا كما يفعل جلد الإنسان ولحمه. حين نتذوق العمارة التقليدية، نشعر بهذا التجانس: بيوت القرية أو الواحة “تنبت” من تربتها كأنها كائنات حية، بخلاف بعض مباني المدن الحديثة التي قد تبدو غريبة ناشزة عن سياقها الطبيعي. وتفسير ذلك في منظور الأركي–جينيتكس هو أن الأولى صيغت بمواد محلية تماهت مع البيئة وجسد الإنسان، بينما الأخرى قفزت فوق هذه العلاقة فلم تحظَ بتلك السمة المريحة للنفس.

5. من الطفرة إلى الهوية: متى تصبح السمات ثقافية؟

تتساءل نظرية الأركي–جينيتكس عن اللحظة المفصلية التي تتحول فيها السمات الموروثة الناتجة عن الطفرات والتكيفات إلى ملامح هوية ثقافية. فكما رأينا، كثير من الصفات الجسدية أو العادات المعمارية بدأت كحلول لمشاكل بيئية أو صحية. ولكن بمرور الزمن واستقرار المجتمعات، انفصلت هذه السمات عن علّتها الأصلية وأصبحت جزءًا من التقاليد والشخصية الجمعية. فعلى سبيل المثال، ربما ظهرت الأزياء القبلية الملونة أو النقوش على الوجوه كوسيلة لتمييز المجموعات وراثيًا أو وظيفيًا (كتمويه في بيئة معينة أو حماية من حشرات)، لكنها مع الوقت تحولت إلى رموز ثقافية تشير للانتماء القبلي والجمالي دون ارتباط مباشر بالوظيفة الأصلية.

في العمارة أيضًا، نجد عناصر معينة بدأت كحل تِقني ثم اكتسبت قيمة رمزية أيقونية. القبة في العمارة مثلا كانت ابتكارًا هندسيًا لتغطية فضاء واسع بلا أعمدة، لكنها عند بعض الحضارات (كالإسلامية) باتت رمزًا روحانيًا وصارت القباب جزءًا من الهوية البصرية للمساجد والأضرحة، حتى لو انتفت الحاجة الإنشائية لها في مبنى صغير. متى حصل هذا التحول؟ النظرة الأركي-جينيتكية تجيب: يحدث ذلك عندما تقوم الثقافة بتبنّي السمة المادية ودمجها في منظومتها الرمزية عبر الطقوس والمعاني. أي أن طفرة ما أو اختراعًا نافعًا يستمر أولًا لأنه نافع (ينتخبه التطور الثقافي كما تنتخب الجينات النافعة)، ثم تبدأ قيمته تتجاوز نفعه لتصبح قيمة معنوية مرتبطة بالهوية والذاكرة الجمعية.

خلال هذه العملية، يلعب الزمن والتكرار دور البطولة. فالتكيّف المفيد حين يتكرر عبر أجيال، يتحول في وعي الجماعة إلى تقليد. ومع استمرار التقليد، يغدو علامة تميز تلك الجماعة حتى لو زالت ضرورته الأصلية. خذ مثلًا تصميم السقف العالي المائل في المناطق المطيرة – كان ضرورة لتصريف المياه، لكن في بعض البلدان التي تقل فيها الأمطار صار السقف المائل التقليدي يُبنى رمزًا لأسلوب “البيت الريفي الجميل”، حتى لو كان بالإمكان بناء سقف مسطح بمواد حديثة. الناس حافظوا على الشكل لأنه أصبح جزءًا من هويتهم البصرية لما يعنيه “البيت” في تصورهم، وليس لمجرد وظيفته. هذه اللحظة التي يُعاد فيها إنتاج السمة لعلة معنوية لا مادية تمثل ولادة السمة الثقافية من رحم الطفرة البيئية.

5.1 دور الطقوس والتكرار في ترسيخ الرموز

لا يمكن إغفال دور الطقوس الجماعية والتكرار عبر الزمن في ترسيخ وتحويل السمات إلى رموز. فالثقافات الإنسانية تضفي معنى على الأشياء والأشكال عبر احتضانها في شعائرها وقصصها. عندما يتكرر استخدام عنصر معماري أو بصري معين في احتفالات أو ممارسات تقليدية، ينتقل من كونه مجرد شكل إلى كونه أيقونة حاملة للمعنى. على سبيل المثال، لننظر إلى عادة رفع الأسقف بشكل هرمي في بعض المعابد الآسيوية: قد يكون الشكل الهرمي في الأصل لتسهيل البناء بطبقات من الخشب أو الحجر، لكنه ارتبط شعائريًا بفكرة الصعود إلى السماء أو تمثيل الجبل المقدس، وهكذا ترسّخ كرمز ديني وروحي. كل مرة كان يُشاد فيها هذا السقف في طقس تدشين معبد جديد كانت تُعاد سردية الرمز وتقوى جذوره في المخيال الجمعي.

من الأمثلة المميزة التي توضح هذا التحول الرمزي عبر الطقوس، منازل قبيلة توراجا في إندونيسيا. فهذه المنازل التقليدية (تونغكونان) تتميز بسقوف خشبية ضخمة منحنية عند الطرفين بشكل مركب مقلوب. تشير الأسطورة المحلية إلى أن هذا الشكل يُمثّل القارب الذي حمل أسلاف التوراجا إلى جزيرة سولاويسي. هنا نرى كيف جرى دمج عنصر معماري (السقف القوسي) في سردية أصلية مقدسة؛ ومع كل احتفال أو جنازة تُقام في ظل تلك الأسقف، يتم استحضار قصة السلف والقارب، مما يعمّق القيمة الرمزية للسقف. بمرور الزمن، حتى لو انتقل بعض أبناء توراجا للعيش في مدن حديثة، بقي شكل سقف التونغكونان بالنسبة لهم أيقونة لهويتهم، يظهر في شعاراتهم السياحية وفي الفن الشعبي كتعبير عن أصلهم المشترك. الطقوس المتكررة – سواء كانت دينية أو اجتماعية – تعمل بمثابة آلة نسخ ثقافي تعيد طبع الرموز على وعي الأفراد جيلاً بعد جيل.

جانب آخر من دور التكرار هو نشوء ما يمكن تسميته بالذاكرة البصرية الجمعية. فالطفل الذي ينشأ وهو يرى نمطًا زخرفيًا معينًا يتكرر في بيته ومعابده وملابسه الاحتفالية، سوف يختزن هذا النمط في لاوعيه الجمالي بوصفه رمزًا “طبيعيًا”. وهكذا يتكيف دماغه على استساغته وربما تفضيله، بل وربما يربطه بقيم إيجابية كالانتماء والراحة. وعندما يكبر، سيورث هذا المنظور لأبنائه عبر صنع المزيد من تلك الزخارف أو رواية قصص عنها. بهذا المسار، تترسخ الرموز عبر التلقين البصري المتكرر حتى تصبح جزءًا من الحمض الثقافي، لا تنفصل عن الشعور بالهوية.

إننا نجد أمثلة لا حصر لها: الهلال الإسلامي الذي بدأ كتعبير بصري فلكي صار شعارًا حضاريًا، الصليب الذي كان أداة إعدام رومانية صار جوهر الهوية المسيحية، العمائم والطرابيش التي ربما ظهرت لاعتبارات مناخية أو صحية لكنها تحولت إلى علامات انتماء قومي أو ديني يرتديها الناس حتى مع تغير الظروف. هذه كلها شواهد على قوة الطقس والتكرار في نقل الأشياء من خانة “الأدوات” إلى خانة “الرموز”. وفي صلب الأركي–جينيتكس، فإن الرموز البصرية الراسخة ما هي إلا تعبيرات جمالية لأمور كانت في الأصل متجذرة في التجربة المادية والجينية للإنسان، ثم اكتسبت حياتها الخاصة في عالم الثقافة والمعنى.

6. علم الفِراسة: مكة كنموذج للإدراك العرقي البصري

يرتبط علم الفراسة في التراث الإنساني عمومًا، والعربي خصوصًا، بفكرة قراءة السمات الظاهرة للإنسان لاستنباط طبائعه وأصله. وهو علم قديم اعتقد أصحابه أن ملامح الوجه والجسد تحمل دلائل على شخصية المرء وأنسبته، بحيث يمكن للخبير بالفراسة أن يميز القبائل والأعراق من نظرة. يشير هذا العلم ضمناً إلى وعي قديم لدى البشر بأن الاختلافات الشكلية بين الناس ليست سطحية فحسب، بل متجذرة في أصولهم. ومن هنا يتقاطع علم الفراسة مع منظور الأركي–جينيتكس: فكلاهما يرى المظهر الخارجي مرآة لما هو كامن في الداخل (جينات أو أخلاق أو هوية).

مدينة مكة المكرمة تقدم نموذجًا تاريخيًا فريدًا لما يمكن تسميته الإدراك العرقي البصري. فقد كانت ولا تزال حاضرة عالمية يلتقي فيها الناس من شتى الأصقاع، خاصة في مواسم الحج. هذا التنوع الكبير في أشكال الوجوه وألوان البشرة دفع سكان مكة عبر الزمن إلى تطوير قدرة فريدة على التمييز والفهم السريع لخلفيات الناس عبر سماتهم. ففي أسواقها وشعابها قبل الإسلام، ثم في ساحات الحرم وأروقة مكة بعد انتشار الإسلام، كان المكيّون يشاهدون العربي والرومي والحبشي والفارسي وغيرهم، ويتعرفون على أنماط الوجوه والهيئات المختلفة. هذا ما جعل مكة أشبه بـمختبر للفراسة: يُحكى في السير أن أحد معاصري النبي ﷺ – وهو الصحابي سهيل بن عمرو – كان خطيبًا لبيبًا “فطنًا” يحسن قراءة الناس، وقد يرجع ذلك جزئيًا إلى احتكاكه اليومي بهذا التنوع البشري في موطنه. بل إن التراث الإسلامي حفظ لنا عبارة توجيهية تُروى في الأثر: «المؤمن كَيّس فَطِن»، أي ينبغي للمؤمن أن يكون ذكيًا منتبهًا. وإن كانت هذه المقولة حديثًا ضعيف الإسناد كما قال أهل العلم، إلا أن شيوعها يدل على استحسان صفة الفِطنة وحضورها في الوعي الجمعي.

قصة أم معبد الخزاعية تشكل مثالًا مشهورًا لقوة الفراسة البصرية في المجتمع المكي وما حوله. تروي المصادر أن النبي محمدًا ﷺ حين مر بخيمة أم معبد في طريق هجرته من مكة إلى المدينة، لم يكن أهل الخيمة قد رأوه من قبل. وبعد أن غادر النبي المكان وقد حلب لهم شاة عجفاء كرامةً منه، عاد زوجها أبو معبد ليسأل زوجته عن الضيف. هنا قدمت أم معبد وصفًا دقيقًا رائعًا لملامح النبي ﷺ ومظهره، حتى لقد استطاع زوجها أن يتعرف على هوية الرجل من الوصف قبل أن يخبره أحد. قالت في وصفها الشهير: رأيتُ رجلًا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولا تزريه صعلة، وسيم قسيم…” إلى آخر ما وصفت من دعج عينيه وكثافة لحيته ووقاره ومنطقه. هذا النص يدل على أمرين: أولهما دقة الملاحظة البصرية لدى أم معبد – وهي امرأة بدوية كبيرة – وكيف استحضرت في ذهنها قوالب معيارية للجمال والشخصية لتصف بها النبي، وثانيهما فهم السامعين لتلك الأوصاف وقدرتهم على ربطها بشخصية معروفة لديهم. فكلمات مثل “وسيم قسيم” و”في عينيه دعج” كانت أشبه بمفاتيح في ثقافة العرب لفهم ملامح الشخص وأصل معالمه.

مكة بهذا المعنى كانت مسرحًا للتعرف البصري العرقي: فالحجاج والتجار الذين يفدون إليها يأتون بأنماط ملبس وسمات وجوه متنوعة، ما درّب عين أهلها على التقاط الفروق وإقرانها بالمنابت والأصول. ويمكن القول إن سكان مكة وما جاورها طوروا نوعًا من الفراسة الاجتماعية يميزون بها مثلاً الحبشي من المصري من المغربي من وجوههم وهيئاتهم. بل إن الأمر تعدى العرق إلى معرفة أنساب العرب أنفسهم عبر القيافة؛ إذ عُرف عن بعض العرب المهرة أنهم قُفّاء يتتبعون آثار الأقدام وملامح الوجوه ليعرفوا أصول الشخص من أي قبيلة هو. هذه القدرات تعكس وعيًا حادًا بأن الجينات (وما تنتجه من ملامح) مرتبطة بالهوية.

في ضوء الأركي–جينيتكس، يمكن استعارة هذا المفهوم وتطبيقه على العمارة: فكما أن مكيًّا في القرن السابع قد يميز رجلًا فارسيًا من هيئته دون أن يكلمه، كذلك يمكن لمتذوق عمارة اليوم أن يميز هوية مدينة ما من طراز أبنيتها دون أن يرى ساكنيها. إن للمباني “ملامح وجه” أيضًا – فالقبة البصلية المشرقية، والأعمدة الكورنثية الإغريقية، والقوس العربي المُفصَّص، كلها أجزاء من “وجوه معمارية” مميزة. وأهل الخبرة يستطيعون ممارسة نوع من “الفراسة المعمارية” لقراءة أصول المبنى وممن استمد ملامحه. وإذا كان العربي قديما يقول: العرق دسّاس مشيرًا إلى ظهور ملامح الأصل على صاحبه رغم تخفيه، فيمكننا القول أيضًا: الطراز دسّاس، إذ لا تلبث الهوية الجينية–الثقافية أن تظهر من خلف جدران المباني وزخارفها مهما حاول المعماريون طمسها تحت تأثير العولمة أو الاستعارة.

والخلاصة أن علم الفراسة علمنا أن العين البشرية مدربة بالفطرة على ربط الشكل بالمضمون – سواءً كان المضمون هو طبائع الفرد أو أصله العرقي. ومكة مثال حي أظهر فيه البشر هذه القدرة على مدى قرون. هذا الإدراك البصري الحاد هو ما تستدعيه نظرية الأركي–جينيتكس لفهم العمارة: أن ننظر إلى المبنى فنحلله كما لو كنا نقرأ قسمات وجه، فنستدل من سماته الخارجية على قصته الوراثية والجمعية. وفي التراث الإسلامي قول يُنسب إلى النبي ﷺ: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» – ورغم أن سنده ضعيف، إلا أن معناه يعزز قيمة البصيرة النافذة. فالفراسة نافذة نورانية إلى خبايا الهوية، سواء في الوجوه أو في الجدران.

7. الحضارات ذات البصمة المستدامة: كيف صمدت الشيفرات البصرية؟

على امتداد التاريخ، برزت بعض الحضارات بسمات بصرية متسقة وقوية لدرجة أنها شكّلت بصمة مستدامة لا تمحى بسهولة. هذه البصمة هي ما يمكن تشبيهه بالشيفرة الوراثية الجمالية للحضارة: مجموعة من الأشكال والأنماط استمرت عبر القرون رغم تغير الظروف والحكام. والسؤال الذي تطرحه نظرية الأركي–جينيتكس هنا: كيف صمدت تلك الشيفرات البصرية؟ ولماذا احتفظت حضارات معينة بأسلوبها المعماري والزخرفي حتى بعد اندثار سلطتها السياسية أو اختلاطها بغيرها؟

لعل من أبرز الأمثلة الحضارة الصينية التي حافظت على معمارها المميز – كأسقفها المقوسة المرفوعة الزوايا والأبنية الخشبية المتماثلة – لأكثر من ألفي عام. بقيت تلك العناصر موجودة في بيوت الفلاحين ومعابد الجبال وقصور الإمبراطوريات المتعاقبة بلا انقطاع واضح. يمكن تفسير ذلك بأن الصين، برغم تبدل dynasties، كانت مجتمعًا ذا استمرارية عرقية وثقافية عالية؛ أي أن الشيفرة الجمالية انغرست عميقًا في نسيج المجتمع بفضل استقرار الجينات (عدم اختلاط كبير بغزاة أجانب لفترات طويلة) واستمرار القيم الكونفوشيوسية التي أولت التقاليد احترامًا كبيرًا. فكل جيل صيني تلقى عمارتَه كتركة مقدسة من الجيل السابق، وندر أن خرج أحدهم بكسر هذه القاعدة. لقد اعتبروا طرازهم المعماري جزءًا من نظام الكون نفسه، فالأعمدة الخشبية وألوانها وترتيب باحات الفناء مرتبطة بمفاهيم فينج شوي والتوازن الكوني، ما أعطاها حصانة فكرية ضد التغيير العشوائي.

ومثال آخر مصر القديمة: حافظت على نمط فني بصري في الرسم والنحت والعمارة – كبسط الوجوه والأجساد جانبًا في النقوش، وهيئة المعابد والأعمدة البردية – طوال ما يقارب 3000 سنة. هذه الاستمرارية المذهلة تشير إلى أن المصريين القدماء ربطوا فنهم بهويتهم الدينية والقومية ربطًا وثيقًا، حتى غدا الخروج عن قواعد النحت والرسم التقليدية بمثابة خروج عن ماهيتهم. ربما لعبت العقيدة الدينية دورًا؛ ففنونهم كانت مرتبطة بالمعتقدات حول الآخرة والنظام الإلهي، لذا تمسّكوا بها لما فيها من قداسة. وهكذا صمدت الشيفرة رغم الغزوات والتغيرات، لأنها أصبحت مرتبطة بالجين الثقافي الأعمق للمجتمع، تنتقل بالتعلم والمحاكاة جيلاً بعد جيل.

الأمر لا يقتصر على الحضارات الموغلة في القِدم. حتى الحضارة الإسلامية – التي انتشرت عبر ثلاث قارات وتنوعت شعوبها – استطاعت خلق بصمة بصرية مستدامة: فنجد عناصر كالقبة والمئذنة والأقواس المنكسرة والزخارف الهندسية تتكرر في عمائر المسلمين من إسبانيا إلى الهند. ورغم اختلاف أعراق المسلمين ولغاتهم، إلا أن تبنيهم للدين نفسه كوحدة جامعة أنشأ نوعًا من “الجينات الثقافية المشتركة” التي حملت هذه الشيفرة البصرية ووحّدت الأسلوب المعماري إلى حد بعيد. صحيح أن العمارة الإسلامية اقترضت محليًا وكيّفت نفسها، لكنها أينما حلت تركت طابعًا يمكن تمييزه كجزء من سلالة فنية واحدة. لقد صمد هذا الطابع حتى بعد زوال دول الخلافة وتفكك العالم الإسلامي سياسيًا، لأن العنصر الثقافي (الدين والتقاليد المرتبطة به) ظل حيًا في النفوس، يغذي استمرارية الرمز البصري.

إن صمود الشيفرات البصرية يرتبط أيضًا بمدى رسوخ القيم المجتمعية المحافظة للتقاليد. الحضارات التي تقدس تراثها وتنظر للأسلاف كقدوة تميل لاستبقاء أنماطهم الفنية. أما المجتمعات التي مرت بثورات اجتماعية وفكرية عنيفة، فغالبًا ما تقطع حبل الاستمرارية الجمالية وتتبنى نمطًا جديدًا كإعلان لهوية جديدة. من هنا يمكن فهم كيف أن روما القديمة مثلًا بعد اعتناقها المسيحية غيرت الكثير في فنونها (فصار الفن البيزنطي مختلفًا عن الوثني)، بينما الهند احتفظت بكثير من طراز معابدها عبر تغير الأديان لأن البنية الاجتماعية ظلت تحتفظ بتوقير الماضي (ولو جزئيًا عبر نظام الطبقات).

باستعارة مصطلحات البيولوجيا، يمكن القول إن الحضارات ذات البصمة المستدامة امتلكت حمضًا نوويًا ثقافيًا ثابتًا نسبيًا، لم يتعرض لطفرة جذرية. هذه الثباتية قد تكون نتيجة العزلة النسبية (كما في اليابان التي أغلقت نفسها قرونًا، فاستمرت بيوت الشوغون بخشبها وورقها التقليدي دون تأثير خارجي كبير)، أو نتيجة امتصاص ممنهج لأي تغيير ضمن القالب الأصلي (كما فعلت الحضارة الإسلامية بامتصاص فنون الفرس والروم وصبغها بصبغتها). وكل ذلك يبرهن على مرونة وقوة الجينات الثقافية الجمالية حين تتجذر: فهي قادرة على الصمود قرونًا كما تصمد بعض الأجناس الحية دون أن تتغير أشكالها كثيرًا.

7.1 حين تهاجر الهويات الجينية

الهجرات البشرية كانت ولا تزال أحد أكبر التحديات لهوية أي مجموعة، سواء الهوية البيولوجية أو الثقافية. فعندما تهاجر مجموعة ذات هوية جينية معينة إلى بيئة مختلفة وتختلط بغيرها، يُطرح سؤال: أي عناصر من شيفرتها البصرية والثقافية ستبقى وأيها سيضمحل؟ نظرية الأركي–جينيتكس تراقب هذه العملية كما يراقب عالم الأحياء انتقال نوع حي إلى موطن جديد. فالبشر المهاجرون يحملون معهم إرثهم الجيني وميولهم الجمالية المتشكلة عبره، لكن البيئة الجديدة والمجتمع المضيف قد يفرضان نمطًا آخر.

في كثير من الحالات، نرى الهويات الجمالية المهاجرة تحافظ على بصمتها عبر توليفات جديدة. خذ على سبيل المثال هجرة المسلمين والعرب إلى الأندلس في القرن الثامن الميلادي: حمل القادمون معهم طرز العمارة الشامية والمصرية، لكنهم وجدوا مواد بناء ومناخًا مختلفًا في إسبانيا. النتيجة كانت اندماجًا خلّاقًا بين الشفرة الأصلية (الأقواس العربية والزخارف الهندسية) والواقع الجديد (استخدام الأحجار والقرميد الإسباني وتقنيات البناء المحلية)، ما أنتج الطراز الموريشي الذي لا يزال شاهدًا على مزيج وراثي–ثقافي فريد. حافظت الهوية الإسلامية على جوهرها (مثلاً بقاء العناصر الزخرفية والآيات المنقوشة)، لكنها تبنّت أيضًا بعض سمات البيئة الجديدة (كتعدد الطوابق والحدائق الداخلية بطابع أندلسي). يمكن القول إن الجين الجمالي المورث تكيف دون أن يفقد ذاته، مثل كائن حي يغيّر لون فروه ليناسب البيئة لكنه يبقى من نفس الفصيلة.

في سياق أحدث، تأمل أحياء الشتات الصيني حول العالم: أينما هاجر الصينيون بأعداد كافية، أنشأوا ما يعرف بالـChinatown – حي صيني يحمل بصمتهم المعمارية التقليدية من أسقف معابد بتنانين منحوته ومصابيح حمراء في الشوارع. على الرغم من أن هؤلاء المهاجرين يعيشون ضمن مدن حديثة في أمريكا أو أوروبا، إلا أنهم أعادوا تكوين جزء من موطنهم بصريًا. هذا مثال واضح على إصرار الشيفرة الجمالية على البقاء في أرض جديدة. وربما العامل المحفز هنا هو الرغبة بالحفاظ على الهوية في مواجهة الغربة، فتغدو العمارة والزينات أداة لتأكيد “من نحن” في وسط غريب. ومع الزمن، قد تمتزج العمارة الصينية التقليدية بعناصر محلية (فتظهر مثلاً زخارف تنين على مبنى واجهته حديثة)، مما يخلق طرازًا هجينًا يعكس حقيقة اختلاط الجينات والثقافات.

لكن ليس دائمًا يكون الدمج سلسًا؛ أحيانًا يحدث تصادم أو طمس. فعندما تكون الثقافة المهاجرة أقل عددًا أو نفوذًا، قد تذوب شيفرتها البصرية تدريجيًا في المحيط الجديد. مثال ذلك كثير من العمارة الإفريقية التقليدية التي لم تصمد في مدن الشتات الأفريقي في الغرب، حيث تبنى الأحفاد العمارة السائدة هناك وابتعدوا عن أكواخ الطين والقش مثلاً. هنا يمكن تشبيه الأمر باندثار بعض الصفات الوراثية المتنحية عندما تتزاوج مع صفات سائدة في مجموعة بشرية أكبر.

مع ذلك، تحتفظ نظريتنا بأن بعض البصمات الجينية الثقافية تظل كامنة حتى لو لم تظهر علنًا. فقد تجد آثارًا خفية – كذائقة لونية معينة أو زخرفة في حليّ أو نقوش على الأقمشة – تستمر لدى الأحفاد كموروثات متنحية، ما إن تتهيأ الظروف الملائمة حتى تطفو للسطح من جديد. وهكذا فإن الهجرة لا تعني دومًا نهاية الشيفرة الجمالية الأصلية، بل ربما هجوعها أو تحورها. والعولمة الحديثة أكبر تجربة لهجرة وتلاقح الهويات: ورغم المخاوف من طغيان نمط عالمي موحد، نشهد أيضًا ظاهرة逆逆الإحياء الثقافي逆逆 حيث تعود جماعات لتبني عناصر من تقاليدها القديمة عمداً للحفاظ على تميزها في وجه التماثل.

في كل الأحوال، تثبت حالات الهجرة أن الشيفرة الجمالية ركن أصيل في الهوية لا يتخلى عنه الناس بسهولة. إنه أشبه بالمورث الذي قد يضعف تأثيره لكنه يبقى عبر الأجيال، متربصًا بفرصة التعبير. فكما يحمل بعض الأفراد جينات لألوان عيون أو أمراض لا تظهر إلا في أحفادهم عند تلاقٍ معين، كذلك تحمل المجتمعات ذكريات بصرية قد لا تنجلي في المهجر مباشرة لكنها قد تظهر في أجيال لاحقة ربما كحنين للفن القديم أو تصاميم دمج تستلهم الماضي. بهذا تستمر الرحلة الجينية للجمال رغم تغيّر الأماكن والأزمان.

8. الجماليات المقارنة: العمارة واللباس والملامح عبر الشعوب

عندما نضع الصور الجمالية لمختلف الشعوب جنبًا إلى جنب – من عمارة ولباس وملامح بشرية – تتجلى أمامنا جماليات مقارنة تكشف انسجامًا مدهشًا داخل كل ثقافة على حدة، وتمايزًا واضحًا بينها. كأن كل شعب صاغ على مدى تاريخه لوحة متكاملة بألوانه وأشكاله الخاصة، تتكرر في وجوه أبنائه وملابسهم وبيوتهم. نظرية الأركي–جينيتكس تجعل من هذا المنظر المقارن دليلًا على ارتباط العناصر الثلاثة (الملامح، اللباس، العمارة) بخيط وراثي–ثقافي واحد.

فلنأخذ مثلاً شعوب المناطق الاستوائية في أفريقيا وأوقيانوسيا: تتميز بشراتهم الداكنة وملامحهم التيadapted to heatكثرة إفراز العرق لتبريد الجسم، وأجسادهم الممشوقة التي تبدد الحرارة بسهولة. نجد مقابل ذلك في عمائرهم التقليدية تصاميم مفتوحة ومهوّاة: أكواخ بسقوف عالية من القش وجدران مفتوحة أو مصنوعة من جدائل الخيزران، تتيح للهواء الساخن أن يتصاعد ويخرج بسهولة. حتى الأزياء هناك كانت في كثيرها فضفاضة وخفيفة بل وأحيانًا مقتصرة على جزء من الجسد، مزينة بألوان زاهية. هذه الألوان الزاهية ليست مصادفة؛ فهي تعكس غنى الطبيعة حولهم من غابات وأزهار استوائية، وأيضًا تخدم غرضًا وظيفيًا مثل عكس أشعة الشمس عن بعض الأقمشة الفاتحة. وعندما نضع الصورة كاملة: شخص أفريقي من المناطق الحارة، طويل القامة، مرتدٍ ثوبًا قطنيًا أبيض أو ملونًا، يقف أمام كوخ بباب واسع وسقف عال من القش – فإننا نرى تكامل الملامح والزي والمأوى كأنهم جزء من منظومة واحدة تتعامل بانسجام مع المناخ الحار الرطب.

على الجانب الآخر، شعوب المناطق القطبية وشبه القطبية (كشعوب الإسكيمو والإسكندناف مثلا): بشرتهم فاتحة، وجلودهم غالبًا أكثر سماكة نسبيًا مع وجود طبقة دهنية أعلى تحت الجلد لحماية من البرد، وأنوفهم وأطرافهم أصغر نسبيًا للاحتفاظ بالحرارة. يقابل ذلك عمائرهم: بيوت منخفضة السقف ومدمجة الحجم لتقليل حجم الهواء الذي يجب تدفئته، وجدران عازلة جدًا سواء من كتل ثلج مضغوط كما في الإيغلو أو من أخشاب سميكة محشوة بالفراغات كما في بيوت شمال أوروبا. الأزياء كذلك سميكة وثقيلة – المعاطف الفروية والقبعات الصوفية – والتي تكاد تجعل الإنسان كتلة من اللباد أو الريش كما حيوان المنطقة (الدب أو الثور المسكّي). حتى ألوان المباني والملابس في تلك المناطق تميل لتكون فاتحة أو موحدة كالأبيض والرمادي، ربما لمواءمة البيئة الثلجية وللاستفادة من انعكاس الضوء. وهنا أيضًا لوحة كاملة: وجه وجسد متكيف مع البرد، بيت صغير حميمي أشبه بالحضن، ولباس يغلّف الإنسان تمامًا كشرنقة دافئة. جميعها أجزاء صورة واحدة عنوانها “دفء في قلب الجليد”.

الأمثلة تمتد بلا نهاية. أهل الصحارى مثلاً: بشرتهم حنطية تتحمل الشمس، رموشهم كثيفة تقي أعينهم من وهج الرمال، قاماتهم أحيانًا نحيفة طويلة لتبريد أفضل. يلبسون أثوابًا فضفاضة بيضاء أو فاتحة تعكس أشعة الشمس وتسمح بمرور الهواء – ونرى الشماغ أو العمامة تغطي الرأس والرقبة للوقاية من الرمال والشمس معًا. أما بيوتهم فإما خيام متنقلة من وبر الإبل (مادة عازلة جزئيًا وخفيفة سهلة النقل) لمن يعيش حياة الترحال، أو مبان طينية حجرية لمن استقر، ذات نوافذ ضيقة وفتحات قليلة لتقليل دخول الحرارة، غالبًا مع ساحات داخلية توفر ظلًا وتهوية في آن. كل عنصر في هذه المنظومة الصحراوية يكمل الآخر: فالخيمة السوداء مثلاً لدى البدو مصممة بحيث تمتص حرارة الشمس نهارًا فترتفع لأعلى، فيشعر الجالس بالظل والهواء تحته أبرد نسبيا، وليلاً تساعد سوادها على احتباس حرارة النهار لمقاومة برد الليل – ألا يشبه هذا آلية جسد الجمل الذي يخزن حرارة النهار ويطلقها ليلًا؟ بل إن بناء الخيمة نفسه بعواميد وسطية وحبال مشدودة إلى الأرض يذكّر بشكل خفي ببنية الهيكل العظمي لجمل أو حيوان رافع ظهره. هي توافقات ربما تبدو شاعرية في الوصف، لكنها حقيقة في المضمون: الإنسان ومنتجه في بيئته صورة واحدة.

من جانب آخر، تساعدنا المقارنة على إدراك أن التنوع الجمالي بين الشعوب ثروة نابعة من تنوع الطبيعة وتنوع “التجارب الوراثية إن جاز التعبير. فكل منطقة من العالم كانت مختبرًا، جرّبت فيه الحياة أشكالاً مختلفة من الحلول التطورية. وحين ننظر إلى الفن والعمارة، نجد صدى تلك الحلول: فالخطوط الحادة الجافة في زخارف قبائل الصحراء (كالوشم الهندسي على وجوه الطوارق، أو الزخارف المثلثية في بيوتهم) تعكس شظف البيئة وقسوتها الخطية؛ بينما المنحنيات النباتية في زخارف شعوب الغابات (مثل الزخارف الماليزية والإندونيسية الملتفة كنباتات الغابة) تعكس طبيعة معايشتهم لعالم مليء بالالتواءات والنمو العضوي. بل حتى الموسيقى والفنون الأدائية تدخل ضمن المقارنة: إيقاع الطبول الإفريقية السريع المتكرر يوازي نقوشهم المتكررة وأقمشتهم الملونة، فيما الألحان الشجية البطيئة في الشمال البارد تشابه ألوانهم الأحادية ومبانيهم الرتيبة نسبيا – كل منهما ربما مرآة للحالة العصبية والمزاجية التي تصقلها البيئة (فالحرارة قد تُلهب الإيقاع، والبرد يبطئه).

إن الجماليات المقارنة تؤكد جوهر فكرة الأركي–جينيتكس: ليس هناك جمال من فراغ، بل هو دائمًا ابن بيئته وأصله. وحين نحتفي بهذا التنوع وندرسه علميًا، فإننا لا نتعرف فقط على ثقافات مختلفة، بل نقرأ أيضًا في صفحات كتاب الطبيعة والتطور. فكل نمط جمالي هو قصة نجاح بقاءٍ بلغة الفن: إنه يخبرنا كيف نجح هؤلاء الناس في الاستمرار والجمال معًا. ومن المدهش أن نجد رغم كل هذا التباين، قواسم مشتركة إنسانية تظهر إن دققنا: كالانجذاب للتناسق، والحرص على الزخرفة في حدود المألوف، وتوظيف الخامات الطبيعية بأفضل ما يمكن. تلك القواسم ربما تمثل “العوامل الوراثية المشتركة” بين البشر أجمعين – أي الأساس الجمالي الفطري – ثم تأتي المتغيرات المحلية كـ”مورثات متمايزة” تعطي كل شعب فرادته. والمقارنة هي أداتنا لرؤية هذه الصورة الكبيرة بكل أبعادها.

9. خمس دراسات حالة: اليابان، السعودية، إسكندنافيا، أفريقيا الصحراوية، أندونيسيا وأزتيك

عمارة البيوت التقليدية في اليابان تتميز باستخدام الخشب وأسقف القش المائلة، كما في هذا المنزل ذو السقف العالي من القش. يوفر الخشب تهوية في البيئة الرطبة ويساهم السقف المائل في مقاومة الأمطار، مما يعكس تكيف العمارة اليابانية مع مناخها وتضاريسها.
اليابان: لدى اليابان إرث معماري فريد يعكس جزيرتها المعزولة وطبيعتها الزلزالية الرطبة. البيوت اليابانية التقليدية (مينكا) بنيت في الأغلب من الخشب والخيزران مع أسقف من القش أو القرميد خفيفة الوزن. هذا الاختيار كان حتميًا بسبب كثرة الزلازل والأعاصير؛ فالخشب مادة مرنة تقاوم الاهتزاز دون أن تنهار، والأسقف الخفيفة تقلل خطر انهيارها على السكان. كما أن مناخ اليابان حار رطب صيفًا، فصُممت البيوت بمواد قابلة للتنفس وبأرضيات مرفوعة عن الأرض على أعمدة قصيرة، مع فتحات واسعة كالأبواب الجرارة (شوجي) التي يمكن فتحها للتهوية. واللافت أن هذه الحلول التقنية اندمجت مع فلسفة جمالية تقدّر البساطة والطبيعة؛ فالبيت الياباني تقليديًا فضاؤه مفتوح مقسّم بأبواب ورقية، بألوان محايدة وارتباط وثيق بالحديقة الخارجية. ربما يعود هذا إلى ثقافة الشنتو التي ترى القداسة في الطبيعة والبساطة. كذلك الحجم الصغير لليابانيين نسبيًا تاريخيًا (بسبب موارد غذائية محدودة في الجزر وكثافة سكانية عالية) انعكس على مقاييس بيوتهم الصغيرة والمساحات المصممة بعناية لاستغلال كل شبر. حتى اليوم، رغم الحداثة، تحافظ العمارة اليابانية على روح خفيفة ومتناغمة مع الطبيعة؛ فالمعمار المعاصر يستعمل الخشب والزجاج بتناغم، ويترك فراغات كافية تشبه “الفراغ الصامت” في منازل الشاي التقليدية. هذه الاستمرارية تشي بأن الجين الجمالي الياباني متوارث: حب التناغم، والوظيفية الأنيقة، والتكامل مع الأرض. اللباس الياباني التقليدي (كيمونو) بدوره بسيط الخطوط متناظر الطبقات، يستخدم القطن والحرير الطبيعي بألوان مستمدة من الفصول – وهو ما يماثل إلى حد بعيد فلسفة بيتهم. حتى ملامح الوجوه اليابانية التي تميل للرقة والبساطة تجد صداها في أناقة عمارتهم غير المتكلفة. إنه مثال نموذجي على هوية بصرية صقلت جيناتها عبر قرون من الانعزال والانسجام مع موطن واحد.

السعودية (الجزيرة العربية): في قلب الصحراء حيث الحرارة القاسية نهارًا والبرودة ليلًا، برزت عمارة عربية مميزة صمدت عبر قرون. المساكن النجدية في وسط الجزيرة مثلاً بنيت من الطين واللبن على شكل مجمعات متراصة بجدران سميكة تصل لمتر تقريبًا. هذا السماكة ليست اعتباطية؛ إنها تعزل الحرارة نهارًا فتحافظ الغرف على اعتدالها، وتطلق الدفء المخزون ليلًا عند انخفاض الحرارة. النوافذ في تلك البيوت صغيرة قليلة العدد، لتقليل أشعة الشمس الداخلة وللحفاظ على خصوصية أهل البيت وفق تقاليد المجتمع المحافظ. في ساحل الحجاز حيث الرطوبة أعلى، نرى تطورًا آخر: بيوت جدة التاريخية مثلًا تعدّدت طوابقها وبُنِيَت من الحجر المرجاني المتوفر محليًا، وزُوّدت بواجهات مزدانة بشرفات خشبية مخرّمة تسمى مشربيات. هذه المشربيات حلت عبقريًا معضلة التهوية والخصوصية معًا؛ فهي تسمح بدخول الهواء مع بقاء الرؤية من الخارج إلى الداخل محدودة. إن توزيع بيوت جدة ومكة القديمة المتقاربة في أزقة ضيقة يظلل بعضها بعضًا هو أيضًا استجابة مناخية لتوفير الظل وتقليل وهج الشمس. من جهة أخرى، الخيمة البدوية المنتشرة عند القبائل الرحّل في صحراء المملكة صنعت من شعر الماعز أو الإبل المسودّ، وهي مضادة للماء بدرجة ما وتوفر ظلالاً وتهوية في آن. تُنصب الخيمة بحيث يكون جزء منها ظليل دائمًا مع تحرك الشمس، ويمكن فتح جوانبها للسماح بنسيم الصحراء بالدخول. اللباس التقليدي كالثوب الأبيض الفضفاض والغترة للرجال والعباءة الفضفاضة للنساء هو أيضًا مكيف بعناية؛ فالأبيض يعكس الحر، والقماش الواسع يسمح بحركة الهواء، فيما تحمي الغترة والعقال الرأس من الشمس والرياح. هذه العناصر المتكاملة – بيت طيني أو خيمة شعر، لباس أبيض فضفاض، جسم ربما أصبح أكثر نحافة مع الزمن للتأقلم – كلها تصوغ مشهدًا وراثيًا جماليًا واحدًا. حتى الألوان الترابية في العمارة النجدية مثلاً تنسجم مع لون رمال البيئة وألوان ثياب السكان البيضاء والبنية، ما يخلق تمويهًا وانسجامًا بصريًا مع المحيط. وتجدر الإشارة إلى أن هذه العمارة التقليدية لم تكن مجرد حلول فيزيائية بل حملت قيمًا ثقافية: فالمجالس المفتوحة للضيوف في واجهة البيت تعكس قيمة الكرم العربي، والمشربيات المزخرفة تعكس حب الجمال حتى في إطار الالتزام بالخصوصية. إنها بحق شفرة معمارية شفافة تستطيع قراءة قيم المجتمع من خلالها.

إسكندنافيا: في أقصى شمال أوروبا حيث الليالي طويلة باردة، نما طراز معماري وحياتي يطلب الدفء والضياء. التقليد السائد هو بيوت الخشب بألوان زاهية (أحمر، أصفر، أزرق) تبهج النظر في بيئة يغلب عليها اللون الأبيض شتاءً. البيوت الاسكندنافية الريفية تاريخيًا كانت أكواخًا خشبية (log cabins) جدرانها من جذوع متشابكة مانعة لتسرب الريح. الخشب يوفّر عزلًا حراريًا ممتازًا بفضل جيوبه الهوائية، ومع التشابك المحكم يقل دخول التيارات الباردة. الأسقف شديدة الانحدار لتمنع تراكم الثلوج، وبعضها مغطى بالعشب (الأسقف الخضراء التقليدية في النرويج وآيسلندا) لإضافة طبقة عزل أخرى وللاستفادة من الثلج حين يغطيها كمادة عازلة أيضًا. الداخل صمم ليكون حميميًا: غرف ضيقة نسبيًا تحتفظ بالحرارة، ومدفأة مركزية ضخمة (وغالبًا مبنية من أحجار أو طوب تخزن الحرارة وتطلقها تدريجيًا). هذا جعل البيت الاسكندنافي كـرحم دافئ يقي الناس من قسوة الخارج. ومع قصر النهار، أصبحت النوافذ عنصرًا مهمًا: حرصوا على وجود نوافذ كافية لإدخال أكبر قدر من ضوء الشمس عند ظهوره، لكنها صغيرة نسبيًا أو لها مصاريع لإغلاقها ليلاً للحفاظ على الحرارة. النتيجة مع الزمن: أناس صاروا أكثر تعلقًا بفكرة الراحة الداخلية (hygge) التي هي مفهوم اسكندنافي مشهور يعني خلق جو مريح دافئ وصغير يشعر فيه المرء بالرضا. هذا المفهوم انعكس في كل شيء: من تصميم الأثاث البسيط العملي الذي يقلل الفوضى، إلى ارتداء طبقات من الصوف والفراء الطبيعي شتاءً، إلى عادات إشعال الشموع وحتى اختيار ألوان الديكور الفاتحة لجعل البيوت أكثر إشراقًا. من الناحية الجسدية، سكان الشمال معروفون بقاماتهم الأطول وبشرة فاتحة (لاحتياجهم لامتصاص الفيتامين د من شمس ضعيفة)، ولعل ذلك توازى مع حبهم للمساحات المفتوحة الواسعة عندما يسمح الطقس – ففي الصيف القصير ترى بيوتهم ذات الحدائق والباحات تفتح مصاريعها للاستفادة القصوى من الضوء. باختصار، تتسم البصمة الجمالية الاسكندنافية بثنائية الشتاء والصيف: بيوت كأنها حصون 冬季، وأثاث وملابس وألوان مشرقة 夏季. والسمتان تنبعان من جذر واحد: التكيف مع بيئة قاسية لكن بوسائل بسيطة وفعالة، فنتج أسلوب تصميمي حديث نعرفه اليوم بـ”التصميم الاسكندنافي” الذي يمزج العملية بالأناقة الهادئة. هذا الأسلوب المعاصر هو سليل مباشر لتلك الأكواخ الخشبية القديمة، مما يظهر استمرارية الجينات الجمالية حتى مع تطور الأشكال.

أفريقيا الصحراوية: يشتمل هذا الإقليم الواسع على تنوع ثقافي، لكن يشترك الكثير منه في المناخ الصحراوي أو شبه الصحراوي الجاف. خذ مثلًا منطقة الساحل والصحراء الكبرى التي تضم قبائل الطوارق والعرب والبربر في شمال أفريقيا وغربها. طوّرت هذه المجتمعات نمطين من العمارة بحسب نمط الحياة: العمارة المتنقلة (الخيام) والعمارة المستقرة (البيوت الطينية). الخيام الصحراوية مثل خيام الطوارق مصنوعة من جلود مدبوغة أو قماش ثقيل مُحاك من وبر الجمال، ومصممة لتكون منخفضة الارتفاع نسبيًا ومنبسطة، بحيث تقاوم رياح الصحراء ولا تحتفظ بالهواء الساخن. لون الخيمة عادةً قاتم (بني أو أسود) لامتصاص حرارة النهار؛ والغريب ظاهريًا أن الخيمة السوداء تكون بالنهار أكثر راحة من البيضاء، لأن حرارة الشمس التي يمتصها سطحها العلوي تسبب تيار هواء صاعد مستمر يجذب الهواء البارد من الأطراف ويحدث تهوئة داخلية. هذا مثال على ذكاء فطري في التصميم متوارث لدى البدو. أما العمارة المستقرة كما في واحات مالي والنيجر، فنجد البيوت الطينية ذات الجدران السميكة جدًا (مثل مدن تمبكتو و جيني في مالي)، وبأسطح مسطحة تستعمل كمجالس ليلية للنوم تحت هواء أبرد. كثيرًا ما تُطلى هذه الجدران بمزيج من الطين والتبن يجعل لونها فاتحًا (بيج أو سكري) ليعكس أشعة الشمس ويقلل امتصاص الحرارة – تقنية تلقائية تعمل عمل طلاء عازل. النوافذ شبه منعدمة، وأحيانًا توجد فتحات صغيرة عليا لإخراج الهواء الساخن، فيما الأبواب خشبية ثقيلة تفتح على أزقة ضيقة مظللة تقي المشاة من الشمس المباشرة. وفي بعض المناطق (كجنوب المغرب وتونس) انتشر بناء البيوت الجزئية تحت الأرض أو داخل كهوف اصطناعية (مثل بيوت مطماطة في تونس) للابتعاد عن لهيب الشمس، إذ تحافظ الأرض على برودة مستقرة نسبيًا.

الجانب الثقافي لا ينفصل عن هذه الحلول. الملابس الصحراوية التقليدية فضفاضة وطويلة، بألوان ترابية أو زرقاء نيليّة (لون لباس الطوارق الشهير) الذي لا يظهر عليه غبار الصحراء ويساعد صبغه النيلي في طرد الحشرات. الرجال يلفون لثامًا على وجوههم (يُسمى عند الطوارق “تاگلمست”) ليس فقط ضد الرمل، بل أيضًا لأن الهواء الذي يزفره المرء رطب ودافئ فيساعد في ترطيب وتنقية الهواء المستنشق حين يمر عبر اللثام – إنها بمثابة “مكيف بدائي” يرتديه الإنسان على وجهه. النساء يلبسن أثوابًا فضفاضة تغطي الجسد لحمايته من الشمس، لكن غالبًا من قماش خفيف يسمح بمرور النسيم. الملامح البشرية في تلك المنطقة – كطول القامة ونحفها لدى بعض قبائل الساحل (الفولاني مثلاً) – تعد أيضًا آلية لتبديد الحرارة (زيادة سطح الجسم بالنسبة للكتلة). هذه الصفة الفيزيائية تكاملت مع أدوات معيشية: فالعمارة هنا غالبًا عمودية ومتهدلة (مآذن الجوامع الطينية رفيعة شامخة، والنخيل في الواحات مرتفع ممشوق)، والقطع الفنية مزخرفة بخطوط طولية متكررة (كما في الزرابي أو الحُليّ عند الطوارق) كأنها صدى لتلك النحافة والامتداد. وتاريخيًا، رغم شح الموارد، أبدع أهل الصحراء أشكالاً جمالية هندسية رآها الرحالة جذابة جداً في نقوش الأبواب الخشبية أو الحُليّ المصنوعة من الفضة والجلد. هذا الهندسي المجرد ربما تأثر ببيئة لا تحوي الكثير من تنوع الأشكال الطبيعية (في صحراء منبسطة الأشكال أكثر هندسية وبسيطة). وهكذا تبرز أفريقيا الصحراوية كحالة تُظهر كيف يرسم المناخ القاسي خطوط الجمال: خطوط متقشفة بسيطة لكنها عميقة الدلالة، تحفظ الحياة وتسرّ العين في آنٍ معًا.

أندونيسيا والأزتيك (أمريكا الوسطى): نشرع هنا في مقارنة عابرة للقارات بين أرخبيل استوائي وحضارة جبلية قديمة، لنستكشف تنوع الحلول لبيئات خصبة رطبة. إندونيسيا بلاد الجزر البركانية المطيرة، عرفت عمارة البيوت المرتفعة عن الأرض على ركائز (بيوت الـ”روماه أدات” التقليدية). رفع المنازل كان حاجة عملية لتفادي الفيضانات ومياه الأمطار، ولحماية ساكنيها من الحشرات والزواحف، كما يخلق فراغًا هوائيًا تحت المنزل يعمل على تبريده في الجو الحار. أسقف تلك البيوت ضخمة ومائلة جدًا بل ومقوسة بأشكال مميزة – أبرزها في بيوت قبائل توراجا Sulawesi ذات السقف المشهور بشكل القارب. هذا السقف ليس فقط لتصريف الأمطار؛ إنما يحمل رمزًا ثقافيًا عميقًا كما أسلفنا: أنه يمثل قارب الأسلاف الأسطوري. أما مواد البناء فكانت من الخشب وأوراق النخيل أو القش (سعف النخيل المجفف) التي تصنع طبقة عزل جيدة من حرارة الشمس الاستوائية وتهدئ صوت المطر الغزير. الزخارف الإندونيسية تقليديًا ملونة جدًا بألوان حمراء وصفراء وسوداء – ربما لتناسب تقاليدهم الروحية التي تعطي لكل لون معنى (الأحمر رمز الدم والحياة، الأصفر رمز البركة) – وأيضًا هي ألوان الزهور والفواكه الاستوائية الوفيرة. الملابس التقليدية في كثير من تلك المناطق (كالباتيك الجاوي) غنية بالزخارف النباتية والتكرارات الهندسية، وأقمشتها خفيفة تناسب الرطوبة العالية.

بالانتقال إلى الأزتيك وحضارات أمريكا الوسطى القديمة: عاشوا في منطقة بحيرات وهضاب مرتفعة (وادي المكسيك مثلا) حيث المناخ معتدل إلى حار في النهار وبارد نسبيًا ليلًا بسبب الارتفاع. بَنَوا مدنًا عظيمة أبرزها تينوتشتيتلان، وعمارتهم الأشهر هي الأهرام المدرّجة المبنية من الحجر. هذه الأهرام كانت معابد ومراصد، ذات تصميم هرمي يرتفع بطبقات تقل تدريجيًا – وهو شكل يوفر استقرارًا ضد الزلازل التي تصيب المنطقة، ويتيح بناءً عاليًا دون تقنية العقود أو القباب. للحجر هنا أهمية: فقد كان وفيرًا (بركاني المنشأ غالبًا) ومتينًا، لكنه يمتص الحرارة نهارًا ويطلقها مساءً، مناسبًا لتقلبات الحرارة اليومية. الأزتيك لونوا مبانيهم بنقوش ورموز دينية بألوان زاهية (على عكس انطباعنا الحالي عنها بلون الحجر الكاشف فقط بعد أن زال الدهان). هذه الحضارة كان لديها جين جمالي كهنوتي – بمعنى أن الفن كان في خدمة الدين والأسطورة. لذا انتشرت صور الشمس والنسور والثعابين في عمارتهم وملابسهم، بأشكال هندسية تذكرنا بأنماط النسيج عند شعوب الأنديز، مما قد يوحي بأصل وراثي ثقافي مشترك من هجرات قديمة في القارة. أجسام سكان تلك المنطقة كانت متوسطة البنية ومتكيفة للعمل الجسدي الشاق (كالزراعة اليدوية والبناء بلا دواب)، فنرى الفن يصور المحاربين والعمال بأجساد ممتلئة قوية. اللباس التقليدي (قبل الإسبان) كان بسيطًا نسبيًا بسبب المناخ، ولكنه مزدان بريش الطيور الاستوائية رمزًا للمكانة – فمن اللافت حقًا ارتباط الريش (الخفة والطيران) مع عمارتهم المرتفعة نحو السماء، وكأن هناك تطلع جمعي “للعلو” تجسد في كل شيء، في المباني والملابس والأساطير (أسطورة الإله الكويتزالكواتل – الثعبان ذي الريش الذي يطير – مثال صريح). على الرغم من اندثار دولة الأزتيك، بقيت كثير من عناصر شيفرتهم البصرية في فنون المكسيك الشعبية: الألوان الفاقعة، والرموز المستمدة من الشمس والجماجم (استمرار معتقدات يوم الموتى)، وحتى زخرفة النسيج في مناطق الريف.

هذه الدراسات الخمس – اليابان، الجزيرة العربية، إسكندنافيا، الصحراء الإفريقية، وإندونيسيا/الأزتيك – تؤكد بأمثلة حية كيف تتفاعل الجينات البيئية والبشرية لتصوغ ثقافة بصرية متكاملة. في كل منها رأينا ارتباط ظروف المناخ والتاريخ بأشكال العمارة واللباس وملامح الناس. والأهم أنها تظهر تنوع طرق الطبيعة في حل مسألة السكن والزي والبقاء. هذا التنوع هو بمثابة مختبر كبير يدعم فرضية الأركي–جينيتكس: لو لم يكن هناك رابط حقيقي بين المورثات (مادية أو ثقافية) وبين المظهر الجمالي، لما رأينا هذا الاتساق الداخلي في كل ثقافة على حدة، ولما أمكن تمييز ملامح ثقافة عن أخرى بهذه الوضوح. لقد رسم التطور خطوطًا عديدة، وكل خط منها حمل معه أناشيده ورسومه الخاصة. واجتماعها معًا هو ما يعطي اللوحة الإنسانية بهاءها واختلاف ألوانها.

9.1 الذكاء الاصطناعي وتتبع الشيفرات البصرية

في العصر الحالي، تقنيات الذكاء الاصطناعي تضيف بُعدًا جديدًا لدراسة الأركي–جينيتكس، إذ أصبح بالإمكان تتبع وتحليل الشيفرات البصرية للحضارات بطريقة كمية موضوعية. خوارزميات الرؤية الحاسوبية المتقدمة قادرة اليوم على تمييز الأنماط في الصور بشكل يفوق قدرة البشر من حيث السرعة والدقة في الفرز عبر قواعد بيانات ضخمة. على سبيل المثال، أمكن تدريب نماذج ذكاء صنعي على تصنيف الصور الفوتوغرافية للمباني حسب الطراز المعماري والمنطقة الجغرافية بدقة متزايدة. هذه النماذج تتعلم تلقائيًا الخصائص المميزة – كشكل النوافذ والأقواس أو مواد البناء – التي تفرق عمارة منطقة عن أخرى. والنتيجة أنه بات باستطاعتنا إنجاز ما يشبه الفراسة المعمارية الآلية: إعطاء برنامج حاسوبي صورة مبنى عشوائية، فيخبرنا باحتمالية انتمائه إلى عمارة بلد أو حقبة معينة، تمامًا كما يستطيع الإنسان الخبير تمييز أصول شخص من ملامحه.

إحدى الدراسات المثيرة وظفت صور Google Street View لتدريب ذكاء صنعي على معرفة المدينة من صورة شارع فقط – اعتمادًا على أن طراز المباني ولوحات الإعلانات وألوان الواجهات تختلف من باريس إلى طوكيو إلى نيويورك. بالفعل نجح النموذج في التعرف على مدن كثيرة عبر أنماطها البصرية الخفية التي يلتقطها. هذا يؤكد أن لكل مدينة “بصمة وجه” متمايزة يمكن للخوارزمية تعلمها، مثلما يتعرف الإنسان على وجه صديق بين ألف وجه. مثل هذه الأدوات تمكننا من رسم خريطة جينية بصرية للعالم: تحديد ما السمات المشتركة بين عمارة مدن البحر المتوسط مثلاً، أو ما الفروق الدقيقة بين طرز أوروبا الشمالية والجنوبية التي قد لا ينتبه لها غير المختص.

إضافة لذلك، هناك توجه لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل الوجوه البشرية وربطها بالعرق والجغرافيا. ورغم حساسية هذا المجال أخلاقيًا، إلا أن تقنيات التعلّم الآلي استطاعت تصنيف صور وجوه بنسبة نجاح عالية إلى فئات إثنية تقريبية. بعض الدراسات البيولوجية أيضًا تستخدم التعلم الآلي لربط الجينات بملامح الوجه. وما يهمنا هنا هو أن هذه التقنيات تقدم دليلاً رقمياً على وجود أنماط ثابتة ومشتركة داخل كل مجموعة بشرية. وبالمقابل، عندما نستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل الزخارف أو الأزياء التقليدية، سنجد أنه قادر على تجميعها في عوائل متقاربة تعكس بوضوح الأصل المشترك (كما تجمع الخوارزمية زخارف القبائل الأفريقية معًا، وزخارف شرق آسيا معًا، إلخ). لقد أصبح ممكنًا مثلاً أن ندرب نموذجًا على التعرف على نسيج الكيمونو الياباني مقابل الساري الهندي مقابل الكوفيّة العربية، وسيجد هذا النموذج الخصائص اللونية والتنسيقية التي تفرق بينها.

وما فائدة ذلك؟ إن الذكاء الاصطناعي أشبه بمجهر إلكتروني يتيح لنا رؤية التفاصيل الدقيقة للشيفرات البصرية وأوجه الشبه والاختلاف بمنهجية علمية. إنه يستطيع تأكيد فرضيات الأركي–جينيتكس أو نفيها عبر البيانات: هل حقًا الزخارف الإسلامية عبر العصور تشترك في أنماط هندسية معينة قابلة للقياس؟ يمكن للذكاء الاصطناعي استخراج سمات من آلاف الصور وإعطائنا إجابة مدعومة بالأرقام (مثلاً: تكرار نمط النجمة الثمانية بنسبة كذا في عيّنة من العمارة الإسلامية مقابل انعدامها تقريبًا في عمارة أخرى). كما يمكنه تتبع تطور الطرز عبر الزمن ومعرفة متى وأين ظهرت طفرات جديدة. تخيل نموذجًا يحلل تصميم الساحات العامة في مدن أوروبا بين القرن الـ15 والـ20 ليجد كيف انتقلت عناصر التصميم من عصر النهضة إلى الباروك إلى الكلاسيكي الجديد.

بعبارة أخرى، يصبح الذكاء الاصطناعي بمثابة أداة “لتسلسل الحمض النووي” للجماليات. فهو يفكك عناصرها الأولية ويحاول التعرف على الأنماط الوراثية – أي المتكررة – والمتحوّلة – أي الطارئة – فيها. وهذا سيساعد الباحثين في دفع نظرية الأركي–جينيتكس خطوة نحو الدقة العلمية الصارمة، بدل الاكتفاء بالملاحظات الانطباعية. قد نكتشف عبر خوارزمية أن منطقتين ظنناهما مختلفتين تمامًا تشتركان في 70% من السمات التصميمية، ما يشير إلى قرابة ثقافية غير مرئية، أو بالعكس نجد مناطق متجاورة تختلف جذريًا ما يدل على حاجز جيني/ثقافي قوي بينهما.

مع ذلك، يجب الحذر: فالذكاء الاصطناعي يعتمد على البيانات التي نزوّده بها. فإذا كانت البيانات متحيزة أو ناقصة، ستكون الاستنتاجات مشوّهة. كذلك، الجماليات ليست مجرد تكرار آلي لأنماط؛ فيها معانٍ وسياقات لا يقرأها الذكاء الاصطناعي بسهولة. على سبيل المثال، قد يصنف الذكاء رسومات شعب المايا والزخارف المصرية القديمة في فئة واحدة لأن كليهما يستخدم الأشكال الهندسية بكثرة، لكنه يغفل المعنى الرمزي المختلف تمامًا لكل منهما. لذا تبقى بصيرة الإنسان ضرورية لتأويل نتائج الآلة ووضعها في سياقها التاريخي والثقافي. يمكننا القول إن الذكاء الاصطناعي سيكون بمثابة “مساعد مختبر” يسرّع تحليل العينات البصرية، لكن فهم الحمض الجمالي وتأويل شيفرته سيظل مهمة المؤرخ والمعماري وعالم الإنسان.

في المحصّلة، دخول الذكاء الاصطناعي هذا الميدان يفتح آفاقًا واعدة: ربما سنصل يومًا إلى برمجيات تصميم تستوحي الأنماط الوراثية للجماليات المحلية فتبتكر مباني حديثة مُطعّمة بالDNA البصري التقليدي. أو تطبيقات للمساعدة في ترميم الآثار تستنتج الأجزاء المفقودة من خلال تعرفها على “جينات التصميم” للبناء. هكذا سنرى امتزاجًا بين أحدث ما توصّل إليه العلم وأقدم ما أبدعته الفطرة الإنسانية، في تعاون يعكس جوهر الأركي–جينيتكس: مزاوجة الطبيعة (المشفرة) والثقافة (المبدعة) من أجل مستقبل جمالي مستدام ومدرك لجذوره.

10. الخاتمة: نحن نبني ما نحن عليه – نحو جمالية وراثية

في ضوء ما تقدم من أفكار وأمثلة، تتبلور رؤية الأركي–جينيتكس كإطار شامل لفهم الجمال العمراني والفني بوصفه امتدادًا لهويتنا الوراثية. لقد رأينا كيف أن أعمق الغرائز – كغريزة المأوى – صاغت أول الأحجار في معابد البشرية، وكيف أن ملامح وجوهنا وأجسادنا تجد صداها في ملامح العمارة والزي من حولنا. نحن نبني ما نحن عليه حرفيًا؛ فالمبنى الذي نقيمه ليس مجرد كتلة جامدة من مواد، بل هو كائن حي نستودعه شيئًا من جيناتنا الثقافية ونفحات أرواحنا الجمعية.

تدعونا هذه النظرية إلى نظرة جديدة لمفهوم الجماليات. فبدل أن نعتبر الذوق أمرًا ذاتيًا عابرًا أو موضة مؤقتة، نراه هنا كرابط عبر الأجيال، تشكل ببطء كما تتشكل الملامح الوراثية. إن تفضيلنا لقوس محدد أو نمط زخرفي معين قد يكون له أصل في بقاء جماعاتنا وازدهارها تحت ظروف خاصة، وأصبح مشفرًا في لاوعينا الجمعي. وعليه، فإن الحفاظ على التراث المعماري والفني يتجاوز البعد السياحي أو التاريخي – إنه في جوهره حفاظ على سلسلة الحمض النووي الثقافي التي جعلتنا ما نحن عليه اليوم. وكلما هُدمت معالم أو اندثرت حرف تقليدية، فكأنما نفقد شفرات من تلك السلسلة يصعب استرجاعها.

النظرية أيضًا بمثابة دعوة للمصممين والمعماريين المعاصرين لاستلهام الحكمة التطورية الكامنة في تصاميم الأسلاف. فتلك العمارة التقليدية التي صمدت قرونًا لم تكن صدفة، بل كانت نتيجة تجارب طويلة أثبتت فاعليتها وملاءمتها للإنسان وبيئته. في حقبة يواجه فيها العالم تحديات مثل تغير المناخ والافتقار إلى الاستدامة، قد يكون إحياء مبادئ البناء المتكيّف مع البيئة ضرورة ملحة. الأركي–جينيتكس تلهمنا بأن الحلول موجودة في جينات ماضينا: بيوت تبرد نفسها ذاتيًا كما فعلت المباني الطينية، مجتمعات تبني مدنًا إنسانية المقياس لأنهم اعتادوا الساحات والأسواق الضيقة التي تجمع الناس، مواد بناء طبيعية أو مستوحاة بيولوجيًا كالتي استخدمتها كل حضارة محليًا. المستقبل المستدام ربما يكمن في استقراء هذه الشيفرات القديمة وتحويلها إلى تقنيات حديثة تراعي الإنسان روحًا وجسدًا.

على مستوى أشمل، تقدم هذه النظرية رسالة وحدة في التنوع. فرغم اختلاف بصمات الجمال بين الشعوب، يظل المنبع واحدًا: سعي الإنسان الدؤوب لتحسين حياته وتحقيق الرضا النفسي والبصري. كل طرز العمارة، من كوخ الأفريقي إلى إيغلو الإسكيمو، تشهد على عبقرية الإنسان عندما يواجه بيئته ويطوع موادها ليصنع مسكنًا. وفي التنوع جمال بذاته، كما في التنوع الحيوي. لربما آن الأوان أن ننظر إلى التراث المعماري العالمي كما ينظر عالم الأحياء إلى منظومة بيئية متعددة الأنواع: كل نوع معماري له دوره وقيمته، وإذا انقرض أحدها فقدنا جزءًا من غنى التجربة الإنسانية. من هذا المنطلق، تدعو الأركي–جينيتكس إلى جمالية وراثية تحترم مورثات التصميم المتباينة وتسعى للحفاظ عليها وصون استمراريتها، تمامًا كما نسعى لحماية اللغات من الاندثار أو السلالات النباتية من الانقراض.

في الختام، إن فهمنا لأنفسنا سيبقى ناقصًا ما لم نفهم ما نبنيه ونبدعه ولماذا نستحسنه. النظرية التي عرضناها ليست سوى خطوة أولى في درب طويل لاستكشاف العلاقة المعقدة بين الجينات والمخيال البشري. وربما مع تقدم العلوم مستقبلاً نكتشف أدلة مادية أكثر – في الحمض النووي أو في بنية الدماغ – تربط بوضوح بين محدداتنا البيولوجية وتفضيلاتنا الجمالية. لكن ريثما يأتي ذلك اليوم، يكفينا ما بين أيدينا من شواهد حية، متناثرة من أرجاء المعمورة ومن صفحات التاريخ، تصرخ متناغمة بالحقيقة ذاتها: لقد بنينا عبر الزمن صورًا منا، بيوتنا تشبهنا أكثر مما نظن، فنحن حقًا نبني ما نحن عليه.


المراجع

  1. Ann Sussman and Janice Ward, The Primal Pattern – The Genetics of Design, 2019. (مقال يشرح تجارب رسم المنازل كوجوه وتماثل الرسومات عبر ثقافات مختلفة).
  2. Ron Friedman, The Best Place to Work, 2014 – مقتطفات منه في مقال Witold Rybczynski, “How Primal Instincts Influence Office Design,” Strategy+Business, Dec 8, 2014. (عرض لنظريات علم النفس التطوري حول تفضيلات البيئة كالإطلالة والملجأ)
  3. مقالة “علم النفس التطوري” (2021) – فقرة نظرية الوراثة المزدوجة.
  4.   – حديث أم معبد الخزاعية في صفة النبي ﷺ، المعجم الكبير للطبراني. (نص وصف أم معبد للنبي الوارد في المصادر التاريخية)
  5. , “قصة أم معبد الخزاعية في طريق الهجرة”,، 2021.
  6. فتوى رقم 13290: درجة حديث “المؤمن كيس فطن” (توضيح ضعف إسناده).
  7. Hindawi.org – كتاب “علم الفراسة الحديث” – تاريخ علم الفراسة.
  8. Nippon.com (نسخة عربية) – لماذا يبني اليابانيون بيوتهم من الخشب؟، 4/4/2017 (يوضح تأثير البيئة الرطبة والزلازل على تقاليد البناء الخشبي في اليابان).
  9. Arab-America.com – Ralph Hage, “Traditional Saudi Architecture: Heritage and Climate Adaptation,” May 28, 2025 (مقال يصف خصائص العمارة السعودية التقليدية وملاءمتها للمناخ).
  10. RethinkingTheFuture.com – “Vernacular designs and climate change” (مقال يستعرض أمثلة تكيّف العمارة التقليدية مع المناخ حول العالم).
  11. ArchDaily – “Timeless Vernacular Wisdom for Cold-Climate Buildings,” 2023 (تفصيل حول تقنيات العمارة في المناخات الباردة: البناء بالخشب، الإيغلو، الجدران الحجرية السميكة…).
  12. PLOS Genetics – Zaidi et al., “Investigating the case of human nose shape and climate adaptation,” 2017 – عبر خبر صحفي لجامعة بنسلفانيا (دراسة تربط بين شكل الأنف والمناخ المحلي عبر الانتخاب الطبيعي).
  13. Penn State News – “Nose form was shaped by climate,” Mar 2017 (بيان صحفي يشرح نتائج دراسة بخصوص ضيق الأنف في البرد واتساعه في الرطوبة).
  14. Nesta.org – John Davies, “Street Style: Machine Learning takes to the streets,” 2019 (تقرير حول استخدام التعلم الآلي في تعرف أنماط العمارة في المدن عبر صور الشوارع).
  15. منظمة اليونسكو – تقارير حول الحفاظ على العمارة التقليدية (عدة تقارير عامة استخدمت كمرجع ثقافي عام لعمارة الصين ومصر الإسلامية وغيرها).
  16. Thomas Murray, “Toraja Tongkonan Houses”, 2018 (معلومات حول رمزية بيوت التوراجا وسقفها كقارب للأسلاف).
  17. RethinkingTheFuture.com – “An overview of Toraja Houses” (وصف للهندسة المعمارية لقبيلة توراجا وتفاصيل بنائها).
  18. موسوعة العمارة العالمية – مقالات متنوعة عن عمارة الأزتيك والمايا (مصدر عام للتوفيق بين البيئة وعناصر التصميم لديهم).
  19. BluEntCAD Blog – “Scandinavian Architecture for Sustainable Living,” 2024 (خلفية عن تأثر العمارة الاسكندنافية بالبيئة الباردة ومبادئ التصميم هناك).
  20. ArchDaily – “Habitat: Vernacular Architecture for a Changing Climate,” 2020 (مصدر عن استخدام مبادئ العمارة التقليدية لمواجهة تحديات المناخ الحديث).
  21. دوريات علم الإنسان (Anthropology) – دراسات مقارنة للأزياء التقليدية وعلاقتها بالبيئة (مصادر متعددة استخدمت للاستدلال العام، مثل دراسة عن اللباس الصحراوي ووظيفته الحرارية).
  22. تقارير MIT Media Lab – مشروع Streetscore وPlace Pulse (مشاريع بحثية تربط الانطباعات عن الأمان والجمال في المدن بملامح بصرية عالجها الذكاء الاصطناعي).
  23. كتب في نظريات العمارة – ككتاب House Form and Culture لـ Amos Rapoport, 1969 (الذي يدعم أطروحة أن البيت نتاج مؤثرات المناخ والثقافة بشكل متوازٍ).
  24. منشورات حول العمارة الإسلامية والموروث الجمالي – للمقارنة والاستشهاد باستمرارية الأنماط الزخرفية عبر العصور (مثل كتاب “فن العمارة الإسلامية” تأليف أ.ه. علي 1986).
  25. مصادر شفوية وملاحظات الباحث – (حول العادات والتقاليد المرتبطة بالعمارة واللباس في المجتمعات المذكورة، لتأكيد الترابط بين العناصر المختلفة في دراسات الحالة).