خلال إشرافي على أحد المشاريع السكنية الراقية، واجهت موقفًا أعاد تعريف نظرتي إلى التفاصيل “الصغيرة” في التشطيب. في لحظة استلام شحنة البلاط، تقدّم أحد الموردين بخبرة واضحة، سحب عينة من صندوق، نظر إليها وقال بنبرة حاسمة: “هذه الدفعة تون رقم 6، وإذا أردت التناسق الكامل بين كل الغرف، لا بد من تأمين الكمية كلها من نفس التون”.
كلماته لم تكن اقتراحًا بل تحذيرًا. وفجأة، تحوّل موضوع “اختلاف التون” من تفصيلة مخفية في المواصفات الفنية إلى عنصر جوهري في جودة المشروع المعماري.
ما هو اختلاف التون في البورسلان؟
“التون” في بلاط البورسلان يشير إلى الاختلافات الدقيقة في اللون أو الإضاءة أو التشبع بين البلاطات التي يُفترض أنها من نفس النوع والتصميم. هذا الاختلاف ليس عيبًا، بل ناتج طبيعي عن ظروف التصنيع—خصوصًا أثناء عملية الحرق بدرجات حرارة عالية.
لذلك، تقوم معظم المصانع بتسمية كل دفعة بإشارة معينة (Tone/ Shade Number) لتحديد التشابه البصري بينها، وتنبيه الجهات المعنية بعدم خلط الدُفعات المختلفة.

ما الحد المقبول للاختلاف؟
رغم أن الاختلاف الطفيف مقبول في بعض الأنواع (مثل بلاط الحجر الطبيعي أو البلاط بتأثير يدوي)، إلا أن التفاوت الملحوظ في الدرجات اللونية، خصوصًا في المساحات المفتوحة أو التشطيبات اللامعة، يُعد خللًا بصريًا يؤثر على جودة العمل.
- النطاق المقبول صناعيًا: عادةً ما تُقبل نسبة اختلاف بصري في حدود ±5%، لكن هذا يظل تقديريًا.
- مهمّة المعماري: التأكد من توحيد التون قبل التركيب، خصوصًا في المناطق ذات البروز البصري العالي.
لماذا يحدث؟ التركيبة الكيميائية والتحكم الحراري
البورسلان عبارة عن مزيج دقيق من الطين الأبيض، السيليكا، والفلسبار، يُضغط بقوة ثم يُحرق في درجات حرارة تفوق 1200 درجة مئوية. تتأثر الدرجة اللونية النهائية بـ:
- نسبة المعادن في المواد الخام
- نسبة الأكسجين داخل أفران الحرق
- دقة التحكم بدرجة الحرارة والزمن
- تقنية الطباعة والغلاف الخارجي (Glaze)
وكلما زاد تعقيد التصميم – كالبورسلان الذي يحاكي الخشب أو الرخام – زادت احتمالات الاختلاف بين الدُفعات.
كيف نعالج المشكلة؟ دور المعماري في التوريد والإشراف
المعماري المحترف لا يترك هذا التفصيل للمصادفة، بل يدمج التعامل معه ضمن خطوات المشروع، مثل:
- حجز الدفعة مسبقًا: إدراج شرط أن كل الكمية يجب أن تكون من نفس رقم التون.
- معاينة عينات حقيقية: طلب تركيب بلاطات تجريبية قبل البدء.
- تنظيم التخزين: وضع علامات واضحة على كل دفعة لتفادي الخلط.
- نصوص تعاقدية صريحة: إدراج بند يُحمّل المورد المسؤولية الكاملة في حال ظهور فروقات غير معتمدة.
- تثقيف العميل: شرح هذا العامل الفني بلغة مبسطة لأن تأثيره النهائي بصري ومباشر.
أمانة المهنة تبدأ من التفاصيل
قد يبدو اختلاف التون أمرًا بسيطًا، لكنه في الحقيقة قادر على إفساد تناغم غرفة بأكملها، أو خلق فوضى بصرية في ردهة فندق، أو تشويه صورة تصميم كان مثاليًا على الورق.
المعماري مسؤول عن التفاصيل. واختلاف التون ليس مجرد لون — إنه مسؤولية مهنية، وعلامة على جودة الإشراف.
خاتمة: الدقة التي لا تُذكر ولكن تُرى
ربما لن يظهر اسمك كمعماري في تقرير لون البلاط، وربما لن يُذكر التون في جلسة التصميم، لكن الناظر إلى المساحة سيلحظ — ولو دون وعي — التناغم أو الفوضى.
حين نفهم أسباب الاختلاف، ونخطط لتفاديه، ونوثّق مسؤوليته، فإننا لا نحمي فقط جماليات المشروع، بل نصون ثقة العميل ونحافظ على مكانتنا كمحترفين في أدق مستويات العمل.
للاطلاع على المزيد من رؤيتنا في التصميم، يمكنكم زيارة فلسفة INJ Architects التي تشرح منهجنا المعماري في التعامل مع التفاصيل، وأسلوب العمارة الذي نطوره باستمرار عبر التجريب والسياق المحلي، كما يمكنكم استكشاف مشاريعنا المنفذة ومتابعة أحدث المقالات عبر المدونة المعمارية الخاصة بنا.