حين تتأمل في تفاصيل النوافذ التقليدية في العمارة الإسلامية، ستجد نفسك أمام عنصرين متشابهين في الفكرة، مختلفين في الروح: المشربية والروشان. كلاهما وُلد من رحم الحاجة إلى الخصوصية، التهوية، والتعامل الذكي مع ضوء الشمس، لكن كل منهما تطوّر ضمن سياق جغرافي وثقافي مختلف. وما بين تفاصيل الخشب المنحوت والزخارف الشبكية الدقيقة، نجد ملامح مدن، وذاكرة سكان، وفلسفة حياة مكتوبة بالمربعات والمضلعات.
في الصورة التي أمامنا، يظهر لنا الفرق بوضوح: الروشان على اليسار بثقله الحرفي، وزخارفه البارزة، وتكوينه المتعدد المستويات. المشربية على اليمين بأناقتها، وتناسق خطوطها، ودقتها الهندسية المتقشفة. كلا العنصرين يتكونان من “رأس” (head) و”قاعدة” (base)، إلا أن الروشان يبرز كشرفة تتقدم عن واجهة المبنى، بينما تبقى المشربية أقرب إلى نافذة داخل الجدار.
الروشان: فن الحجاز وذاكرة جدة

الروشان هو من أبرز عناصر العمارة الحجازية، خصوصًا في مدن مثل جدة ومكة والمدينة. يتميز بكونه بارزًا عن الواجهة، مدعومًا بجسور خشبية، ومزودًا بشبك خشبي مائل يسمح بالتهوية دون كشف الداخل. يُصنع من خشب الساج أو خشب التيك المستورد من الهند عبر البحر الأحمر، ويُزخرف يدويًا بزخارف هندسية أو نباتية.
يستغرق تصنيع الروشان الواحد أحيانًا من 20 إلى 60 يومًا حسب التعقيد، ويتطلب تعاونًا بين النجار، النحات، والدهّان. غالبًا ما كان يُستخدم كعنصر يدل على ثراء صاحب المنزل ومكانته الاجتماعية، إذ أن تكلفته كانت باهظة، ويُصمم خصيصًا لكل مبنى.
المشربية: ظلّ بغداد وحياء القاهرة
أما المشربية، فهي أقدم تاريخيًا، وتعود أصولها إلى العصر العباسي في بغداد (القرن التاسع الميلادي)، وانتشرت لاحقًا في مدن مثل القاهرة، دمشق، والقدس. تتميز بتكوين شبكي دقيق يسمح بمرور الهواء وتبخر المياه الباردة من “زير المشربية” الذي كان يوضع داخلها لترطيب الجو.

المشربية تُصنع من خشب القطنية أو خشب الجميز المحلي، وغالبًا ما تُطلى باللون البني أو الأسود لحمايتها من الشمس. تصميمها داخلي أكثر من الروشان، أي أنها لا تبرز كثيرًا عن الواجهة، وتتميّز بزخارف من أعواد الخشب المتشابكة بدقة.
الوظيفة المناخية والخصوصية
يشترك الروشان والمشربية في الهدف الأساسي: توفير الخصوصية للنساء داخل المنازل، دون حرمانهن من رؤية الشارع. كما أنهما يسمحان بمرور الهواء النقي، وتخفيف أشعة الشمس القوية في البيئات الحارة والجافة.
الاختلاف البيئي بين الحجاز وبلاد النيل مثلًا، أدى إلى اختلاف في تصميم العنصر: فبينما يكون الروشان أكثر سماكة وبروزًا لصد حرارة أشد، نجد المشربية أكثر خفة وأناقة لتناسب مناخًا أكثر اعتدالًا.
رمزية اجتماعية وهوية بصرية
كلا العنصرين تحوّلا إلى رمز للهوية المعمارية في المناطق التي انتشرا بها. في جدة، أصبح الروشان رمزًا بصريًا للمدينة التاريخية، حتى أن ترميم الروشان اليوم أصبح جزءًا من مشاريع السياحة الثقافية مثل “جدة التاريخية” المدرجة في قائمة اليونسكو.
وفي القاهرة، ارتبطت المشربية بالأدب والفن، وظهرت في روايات نجيب محفوظ كعنصر مسرحي يعكس الانعزال والحياء، وفي أعمال المستشرقين كرمز شرقي أنيق.
التحليل البصري للصورة
في الصورة المرفقة، نلاحظ أن الروشان (إلى اليسار) يتميز بتكوين معقد مكوّن من ثلاث مستويات واضحة:
- الرأس (Head): مُزيَّن بعناصر زخرفية خشبية مثل التاج، والذي يُشير إلى الطابع الحجازي الفاخر، ويؤدي وظيفة جمالية وتعبيرية.
- الجسم الرئيسي: يضم نوافذ صغيرة مزخرفة ومحاطة بأخشاب منقوشة بزخارف بيضاوية تعكس الطابع الهندي-العثماني.
- الواجهة الأمامية البارزة: شبكة خشبية مائلة مائلة تسمح بالظل والرؤية دون كشف كامل، وهي من العناصر الوظيفية الأساسية في مناخ الحجاز.
أما المشربية (إلى اليمين)، فتتميّز بخطوط رأسية صارمة وأقواس ثلاثية تعلو فتحات مزخرفة بأعمال “الخرط العربي”، ما يدل على الدقة والانضباط المملوكي أو العثماني المتأخر. كما أن الشكل ثابت ومتمركز، بدون بروز كبير عن الواجهة، مما يجعلها أكثر اندماجًا في الجدار من الروشان.
الفقرة التحليلية البراغماتية
من زاوية براغماتية، يمكن القول إن الروشان والمشربية لم يكونا مجرد ترف زخرفي، بل كانا حلّين هندسيين محليين نابعين من بيئة قاسية. في مناخ الحجاز الحار والرطب، احتاج السكان إلى عنصر معماري يوفّر تهوية فعالة ويحجب الشمس، فجاء الروشان بحجمه الكبير وميله نحو الخارج ليجذب نسيم البحر، ويمنح النساء مساحة رؤية خارجية دون كسر الخصوصية.

أما في القاهرة أو دمشق، حيث المناخ أقل تطرفًا، جاءت المشربية بخطوطها الدقيقة وعناصرها الخشبية المنحوتة لتوفّر الظل وتلطف حرارة النهار، لكنها بقيت ضمن حدود الجدار الخارجي. الروشان يُشبه الحديث المرتفع في الشرفة، بينما المشربية تهمس من خلف الستار.
جدول مقارنة تحليلي: المشربية × الروشان
العنصر | الروشان (الحجاز) | المشربية (المشرق العربي) |
---|---|---|
الانتشار الجغرافي | جدة، مكة، المدينة | القاهرة، دمشق، بغداد |
فترة الظهور | القرن 17 – 19 الميلادي | منذ القرن 9 الميلادي |
المواد | خشب الساج أو التيك المستورد | خشب الجميز أو القطنية المحلي |
شكل التكوين | بارز عن الواجهة (شبه شرفة) | داخل كتلة الواجهة (متكامل مع الجدار) |
الوظيفة المناخية | تهوية قوية، ظل، خصوصية | ظل، تبريد تبخري، تهوية معتدلة |
الزخرفة | زخارف نباتية وزجاج ملون وخشب محزز | خرط دقيق، أقواس هندسية، شعر محفور أحيانًا |
الرسالة البصرية | يعلن عن حضور وهوية المالك | يحمي الخصوصية ويعكس الذوق الداخلي |
الوظيفة الاجتماعية | كانت رمزًا للثروة والرفعة | عنصر يحمي النساء ويعبر عن حياء ثقافي |
تأمل ختامي: ماذا لو أُعيد ابتكارها اليوم؟
تخيل لو أُعيد تصميم الروشان والمشربية اليوم، لكن باستخدام تقنيات معاصرة مثل CNC أو الطباعة ثلاثية الأبعاد، مع الحفاظ على روحها الأصلية. كيف سيكون شكل المدينة؟ هل يمكن لعنصر تراثي مثل هذا أن يجد له مكانًا في العمارة الحديثة المستدامة؟ الأرجح: نعم، بل هو ضرورة.
فالروشان والمشربية ليسا مجرد نوافذ، بل هما مفردتان معماريتان تنبضان بالهوية، والمناخ، والخصوصية، والذوق المحلي. وكل من يعمل بالعمارة في العالم العربي، لا بد أن يقف عندهما طويلًا، مستلهمًا، متأملاً، وربما… مبتكرًا.